هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“نقطة على الحرف” – الحلقة 1453
من وَهران إِلى وُوْهان: العُزلة البشرية
إِذاعة “صوت لبنان” – الأَحَد 1 آذار  2020

          كأَنما قدَرُنا، نحن اللبنانيين، أَن ننتقل في حياتنا اليومية من هَمٍّ إِلى هَمّ، فلا نَفَسُ راحةٍ من همومٍ نأْوي إِليه في دفْءِ طُمأْنينة.

          ففيما حديث المواطنين بين لغط الدولار وهبوط الليرة، ولغط الحكومة وإِقلاعها الـمُتَسَلْحِف، ولغط الحكْم و”ابتهالاته” النفطية، جاء وباء الكورونا يحتل حديث الناس شعبيًّا وسياسيًّا وإِعلاميًّا فيزداد الهلع هلعًا والوساوس وساوس، والإِجراءاتُ مبالغَ لم يسبِق بلوغُها هذا الضياع.

          جاء الكورونا ليكشِف عورات الصحة في اعتلالات رباعية: الصحة الجسدية، الصحة العقلية، الصحة النفسية، والصحة الاجتماعية. ويواجه المواطنون هذه الأَربعة كأَنهم يواجهونها حديثًا مع أَن كلًّا منها بديهيُّ الوقاية في الزمن العادي. فما نشهده حاليًّا من حوادث انتحار يكشِف انحلال الصحة النفسية، وإِجراءات المداخل برًّا وجوًّا وبحرًا تكشِف انحلال الصحة السياسية، وحظْر السفر إِلى بلدان موبوءة يكشِف انحلال الصحة العقلية لدى من يَخضَعون أَو يُخضَعون للحجْر طوعًا أَو قسرًا، وتقوقُع الناس في مرابعهم دون اختلاطٍ أَو سهَرٍ أَو تردُّدٍ إِلى أَماكن عامة يكشِف انحلال الصحة الاجتماعية. وجميع هذه الانحلالات يفترَضُ أَن كانت واجبة الاستدراك بداهةً قبل أَيِّ وباءٍ يسبِّب هلعًا باتت معه الوقاية دُرْجةً مبالَغًا فيها، حتى انتشرت مثلًا موضةُ وضْع الكمامات في التنقُّل ولو من دون موجِب فعلي، وانتشرَت موضةُ احتساء العرَق واليانسون في النصائح الشعبية، وتنبَّه المعنيون فجأَةً إِلى مراقبة الحدود أَكثرَ من قبْل مع أَن هذه وقايةٌ موجِبَةٌ في الأَيام العادية، وإِجراءات كثيرة أُخرى من نظافة وتعقيم ومآكل وعناية صحية تستوجب الوقاية العادية في الأَيام العادية ولا ضرورة للفُوبيا الفردية والجماعية والشعبية والحكومية لاتِّباعها – هذه الأَيام حصرًا – بسبب انتشار الكورونا وارتباك المواطنين هستيريًّا بين تعليمات منظَّمة الصحة العالمية وتعاليم الجيران في الحي، فيما أَخذت تطفو بين الناس غرائزُ كرهيةٌ ودينيةٌ وسياسيةٌ وبَغضائيةٌ وتمييزيةٌ وتَنَمُّرية كما في بدائية الغاب حيث غريزةُ البقاء تُفرز الأَعنف والأَقوى. وإِذا كان الوباءُ غيرَ مَرئيٍّ ودخولُهُ الجسمَ غيرَ مرئي، فتَرَدُّداتُه الإِنسانية فرديًا ومجتمعيًّا مرئيَّةٌ في مبالغاتٍ كان يجدر التفاعل بها ومعها من دون مبالغةٍ في الظروف العادية فلا ضرورة عندها في البيوت والمدارس والأَماكن العامة لوقاياتِ نظافةٍ إِرشادية استثنائية محصورة فقط في ظرف استثنائي.

          رواية “الطاعون” لأَلبير كامو (1947) تبدأُ من جرذونٍ واحدٍ ظهر في أَحد شوارع وهران ثم تكاثرَت الجرذان فانتشر الوباء وعَزَلَ وَهْران داخليًّا عن الجزائر ثم خارجيًّا عن العالم. وكان يمكن تفادي الوباء لو كانت شروطُ الصحة وظُروف النظافة والإِجراءاتُ الوقائية الـمُسْبَقَة متوفِّرة في المدينة. وبين وَهْران الأَمس في الجزائر وَوُوْهان اليوم في الصين، ومن جُرذان وَهران إِلى خَفافيش وُوْهان، يَعزِل البشريةَ اليوم مُجددًّا وَباءٌ أَسوأُ ما فيه فَضْحُهُ التقصيرَ في استباق الأَخطار قبل حدوثها.

          إِجمالًا ليس للوباء إِلَّا سيِّـئات. سوى أَنه ينَبِّه إِلى إِجراءات مُسْبَقَة يَجدُر بالحُكْم اتخاذُها قبْل هُبُوب الوَباء فلا تَبقى النفايات بين البيوت، ولا تَبقى الشوارع بُؤْرة جراثيم، ولا تَنفُثُ المداخن سرَطان دخانها فوق المدينة متغلغِلًا في بيوت المواطنين وصدورِهم ورِئاتِهم مسِّببًا لهم موتًا بطيئًا لا تعود تَنفَع معه سفينةُ استطلاع عاديةٌ للبحث عن النفط حين دخان البواخر والمولِّدات يَحفِر قبور الناس وسْط عُرس البهجة الوطنية ببداية الحفْر في البحر على مواردَ طبيعيةٍ تحتاج سنواتٍ ضوئيةً قد يفيد منها من يَبقى حيًا بين اليوم وظُهُور أُعجوبة البحر.

هـنـري زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib