هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أَزرار – الحلقة 1114
الفن ناقل التلاقي والانفتاح
“النهار”  –  السبت  28 كانون الأَوَّل 2019

         يعرفه الكثيرون روائيًّا، عضوَ أَكاديميا غونكور، مرشَّحًا غير مرة لــ”نوبل الأَدب”، والكاتبَ الفرنكوفوني الأَكثر ترجمةً في العالم. غير أَن الأَقلَّ لم يكونوا يعرفون الكاتب المغربي الطاهر بن جلُّون رسامًا، حتى كان معرضه الأَول سنة 2010 في “معهد العالم العربي”، فإِذا موهبته التشكيلية تعادل بأَناقتها موهبته الروائية والشعرية.

         بهذه الصفة دعاه يومًا صديقه جيروم كليمان (المدير السابق لقناة ARTE التلـﭭـزيونية) إِلى زيارة بلدته الصغيرة توراي Thoureil على الضفة اليسرى من نهر اللوار، والاطِّلاع على كنيسة القديس شارل فيها، وترميم ثماني زجاجيات من القرن التاسع عشر لإِعادة الأَلق إِلى هذه الكنيسة القديمة من القرن الثاني عشر، وهي منذ 1905 على لائحة المباني التاريخية.

         ما إِن زار بن جلون تلك الضيعة الصغيرة (نحو 500 نسمة) ووقف لحظاتٍ يتأَمَّل انعكاس بيوتها على تموُّجات اللوار، حتى وافق على الطرح “مغتبطًا برمزية أَن ينفِّذ هذا المشروعَ في الكنيسة فنانٌ مسلم”، وهي الحجة الطائفية التي تلطَّى خلفها فنانون محليون كي يعترضوا على التكليف (حديثه في عدد هذا الأُسبوع من  Paris Match). غير أَن تصاميم الزجاجيات الثماني، لدى عرضها على أَعضاء اللجنة، لفتَتْهم بجمالها وأَناقتها فنالت الموافقة بالإِجماع، وانصرف الزَجَّاج إِلى تنفيذها،  تـم التدشين في مطلع هذا الشهر، وأَلقى بن جلون كلمة قصيرة قال فيها إِنه أَدخل “النور الـملوَّن إِلى الكنيسة بنكهة أَلوان المتوسط على ضفاف اللوار، فانعكس فيها تماوُج مياه النهر الـمتنزِّه أَمام الكنيسة”، وختم: “يغبطني، أَنا الـمُسْلم، أَن أَترك بصمةً فنيةً في كنيسة كاثوليكية، وأَن أَكون بالفن ساهمتُ في الحوار بين الأَديان التي تتكامل جميعها في الكتب السماوية”.

         هكذا، بعد زجاجيات تالفةٍ من القرون السابقة صمَّمها على الطراز الرومانـي الغوتـي رهبانٌ مـختصون، حملَت الزجاجيات الجديدة توقيع الـمَغربـيّ الـمُسْلم الطاهر بن جلون.

         هوذا الفنُّ إِذًا، الفنُّ العالي العابر فوق جميع جسور التنظير والادِّعاء والكلام الـمكرَّر عن “التعايش”، يُــثبت أَنه واحةُ التلاقي والانفتاح، ناقلُ السلام والغفران والسماح، وَفْق جوهر الدين لا بتطبيقات متعصبة تُنَفّر المؤْمنين من الدين، ووفق ممارسة الطقوس تقويًا لا ظلاميًّا بـجعْلها سلاحًا لـمحاربة الإِنسان أَخاه في الإِنسانية.

         بعد تركيب الزجاجيات الثماني حول المؤْمنين الخاشعين بتقوى الصلاة داخل كنيسة سان شارل في تلك الضيعة الصغيرة النائية، وفيما هم يرددون الصلوات ناظرين إِلى زجاجيات جميلة ملونة حولهم رسَـمَها لكنيستهم فنانٌ مُسْلم، إِخالهم كلما رسموا إِشارة الصليب متمتمين “باسم الآب والابن والروح القدس”، يتناهى إِليهم من الزجاجيات صدى مُؤَذِّنٍ يصلي معهم: “الله أَكبر، باسم الله الرحمن الرحيم”. وفيما يعلن جرس الكنيسة نهاية القداس، يَـخرج منها المؤْمنون بغبطة أَنهم كانوا داخلَها مغمورين بنعمَتَين: تقوى الصلاة وتقوى أَن الكنيسة والـمَسجد فردوسان أَرضيان يظلِّلُهما من سـمائه ربُّ العالـمين الإِلهُ الواحدُ الأَحد.

هـنـري  زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib