هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“أَزرار” – الحلقة 1107
وحدَها الكِلمة/الـمِقْصلة
“النـهار” – السبت 26 تشرين الأَوَّل 2019

“كلُّكم مسؤُول… أُولئِكَ الذين اشتركوا في حُكْم البلاد منذ ربع قرن، أَيُريدون أَن يقولوا إِن البلاد كانت خاليةً من الحُكْم والحكومة في عهدهم؟ ليس مَن يصدِّق مزاعمَكم، فلا تتهرَّبوا ولا يحاولنَّ أَحدٌ منكم إِلقاء التبِعة على سواه. كلُّكم في الإِثم سواء. وكلُّكم راعٍ. وكلُّكم مسؤُول عن رعيَّته. مَن لم يساعِد في الفساد أَو يغرق فيه، تغاضى عنه أَو سكَتَ عليه. مَن لم يكن فاسدًا كان جبانًا. إِنَّ فشَلَكم في حُكْم البلاد ناشئٌ عن فساد عقليَّتكم. صفحاتُكم جميعًا سوداءُ فاذهبوا جميعًا” (…).

هذا الـمَقطع من نصٍّ غاضِب يمكن أَن يكتُبَه زميلٌ في “النهار” أَمس أَو أَول من أَمس، أَو قد يكتبه غدًا زميلٌ أَو كاتبٌ في أَيِّ جريدة أَو وسيلة إِعلامية فيكون فاعلًا ويكون مؤَجِّجًا غضبًا صاعقًا يُطيح كلَّ مسؤُول في هذه السلطة الفاسدة.

غير أَن هذا الـمَقطع – ولا مفاجأَة به في بلدٍ مُعظمُ حُكَّامه إِقطاعيُّون – هو من مقالٍ كتبَه في أَيلول 1952 الصحافـيُّ الشهيد كامل مروّه افتتاحيةً في جريدته “الحياة”. قراءته اليوم تُظهر لماذا، بعد صدوره بأَيام، استقال رئيس الجمهورية بشارة الخوري وحكومته تحت ضغط الشارع الغاضب. فالثورة لا “تولد من رحِم الأَحزان” بل من جَـمر الكلمات التي هي أَقوى سلاحٍ وأَعتى قوةٍ وأَفعلُ أَثرًا من أَيِّ أَداة أَو وسيلة. الكلمة القاطعة التي تُشعِل ثورة، تُسقط حُكْمًا. الكلمة الـمِقْصلة. الكلمة الفأْس. الكلمة الصفْعة.

الثورة الفرنسية لم تولَد عفويًّا من غضب الناس في الشوارع بل من كلمات المفكِّرين والأُدباء والفلاسفة والـمُشرِّعين، كلمات أَجَّجَت الغضب تدريجيًا في الناس حتى اندفعوا إِلى خلْع بوابة الباستيل ورؤْية الملك لويس السادس عشر يتدحرج رأْسُه تحت شفرة الـمِقْصلة، وغروب الملَكية المتسلِّطة وشروق فجر الجمهورية.

وحدها الكلمة لا ردَّ لصاعقتها. كلمات الكتَّاب والصحافيين سنة 1952 كانت الشرارات التي أَشعلَت بركان الغضب وأَطاحت الحكْم وفرضَت حكْمًا جديدًا طالب به ثائرون تأَثَّروا أَساسًا من كلمات الصحافيين والكتَّاب.

وحدها الكلمة تُنهي التسلُّط وتباشر السُلطة. وحدها أَقوى من “النهر الجارف” الذي يهدِّد به الناسَ سياسيُّون متغطرسون جَهَلَة، لأَن جَـمر الكلمة بركانٌ يتهيَّأُ غليانًا غليانًا حتى ينفجر فيُطيح حكْمًا وحكَّامًا ومتحكِّمين ومستحكمين ويجرفهم تحت حِـمَمه الغاضبة صخُورًا تتذَرَّر رمادًا لا قيام منه ولا رجوع.

وحدَها الكلمة تَـخلع حُكَّامًا يَسوقون شعبهم قطيعًا، وهي التي تَــخلق ثوَّارًا ينتفضون على نِــيرهم ويخلَعون الـمُمْسكين بالنير. فالكلة سلاحٌ لا يملكه الحكَّام مهما راوغوا.

وحدها الكلمة تَرفع صوتها فتُضيْءُ شمس الحقيقة وتُطفئُ كلَّ قبضة ترتفع تهديدًا، أَو أَصابعَ تعلو تَـحميسًا، لأَنَّ نُور الكلمة من وهْج الشعب، والشعبُ وحده مصدرُ كلِّ نُورٍ حين يَشعُّ تقضي كلمَتُه على كل ظالمٍ وظُلمة وظَلاميَّة وظُلامة.

هـنـري  زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib