هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“أَزرار” – الحلقة 1039
الـمكان من وحــي الآخَـر
“النهار” – السبت 9 حزيران 2018

 أَعود إِلى نيويورك بعد غيابي عنها 35 سنة.

أَزُورُها وأَنا غيرُ ذاك الذي عاش فيها قبل ثُلث قرن. أَدُور في شوارعها، أَتذكَّر الأَمكنة من دون حنين. تغيّرَتْ فيه معالِـم، تبدَّلَتْ، تطوَّرَتْ، عَمُرَتْ، تَعَصْرَنَتْ، ولكن… لا مكانَ فيها يندهني.

المكان ليس المكان. المكان هو الآخَر.

لم تتغير نيويورك. أَنا الذي تَـغَــيَّـر: زرتُها قبل 35 سنة وكنتُ وحيدًا فاحتضنَـتْـني بِـحُضُورها الـجَمّ، وأَزورُها اليوم وبي حضورٌ غامرٌ أَوسعُ من أَن تَـحتضنني.

عشتُ فيها وأَنا بلا حالة، فاحتوتْني حالةُ المدينة، وأَزورُها اليوم وأَنا في حالة الحب الوحيد فلم تَسكُن بي حالتها.

كانت لي ملجأً يغمرني بالطمأْنينة، وأَزورُها اليوم وأَنا مغمورٌ بـحُبي وأَيقونَــتِــه داناي.

كانت وطنًا مستعارًا يأْويني في غربتي، وأَزورها اليوم بلا غربة لأَنّ حبيبتي باتت وطني.

أَذكرُها، نيويورك، مدينة جميلة الغرابة، وأَزورها اليوم لا أَجد غرابةً فيها لأَنني صرت في الانتماء الأَعلى، الانتماء إِلى الحب الذي لا يحدّه مكان.

المكان ليس حدُود المكان. المكان هو اتساع الآخَر.

كانت نيويورك كتلةَ شواهق أَرفع نظري عاليًا وأَسير بينها، تحتها، حولها، عند أَقدامها، مأْخوذًا بامتداداتها وشواهقها فأُحسها تَسحَقُني متقازمًا أَمام عمالقة، وأَزورها اليوم وأَنا في حالة من الغبطة العليا أَبعدَ امتدادًا وأَرفع شاهقًا.

أَذكر كم كنتُ آوي إِلى معالمها الثقافية: الـ”كارنغي هول”، المتحف الطبيعي، متحف “غوغنهايم”، مكتبتها العامة، أُمضي فيها جميعًا ساعاتٍ من القراءة أَو الـمشاهدة أَو الـمطالعة أَو الاكتشاف، وكم كانت لي وِقفاتٌ طويلةٌ، غُرُوبًا أَو مساءً، في واحات الــ”سنترال بارك” ترافقني وحدتي مُـخَـفِّفَةً من غربتي بعيدًا عن حنينٍ لم يكن وجَدَ يُنبوع الحنين بعد. واليوم أَزور نيويورك، وبي حضورُ داناي يَـملأُ حنيني بالحب الوحيد الذي يستاهل أَن نحيا العمر كلَّه في انتظاره كي يأْتي ولو في خريف العمر، فلا أَجد بي اليوم رغبةَ أَن أَزور وحدي تلك الـمعالِـمَ الثقافية، بل أَعِدُني أَن أَعود إِليها جميعِها مع داناي تتأَلَّق هي فيها فأَنسحر بتأَلُّقها البهيّ.

أَتذكَّــرُهُ جيِّدًا، ذاك الشارع العاشر غربًا، أَمشيه أَمشيه وأَرنو بِـخيالي نوستالجيًّا إِلى حيثُ كان المبنى 51 وفيه “صومعة” جبران، عاش فيها آخر عشرين سنةً من حياته. واليوم، حتى هذا الشارع لم يعُد يندهُني لأَن النوستالجيا بات يسكُنها حبي، ومنها أُطل على سنوات العمر، لا حنينَ لي بعدُ إِلَّا إِلى الآتي من سعادتي في مدار داناي.

هكذا زرتُـها نيويورك، قبل أَيام، منفصلًا عن ذكرياتي فيها، كأَنها أَيُّ مدينةٍ في أَيِّ مكان من أَيِّ بلاد.

زُرتُها من دون لهفة الاكتشاف لأَن لهفتي باتت كلُّها لِـحُبّـي، وبات له وحده المكان.

المكان ليس هو المكان. المكان هو القلبُ الآخَـر.

هـنـري  زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib