هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“أَزرار” – الحلقة 969
… ولـن تُـحنِّطَـه نــوايــا الشَــرّ
“النهار” – السبت 10 كانون الأَوّل 2016″

عن موقع “هافنغتون بوست” الإِلكتروني: اكتشافُ مومياء في الصين ترجيحُ عمرِها نحو 2100 سنة، وما زالت معالِـمُ جِلْدها وشعرها ورموشها سليمةً، وقدميها حتى ليمكن ثـنْـيُـهُـما، ما يجعلُها أَفضل مومياء في العالم. سَـمّاها الخبراء “السيّدة داي” لترجيحِهم أَنها مومياء “تْشِين شْوِي” زوجة الماركيز داي من زمن أُسرة “هان”. وكان العمّال اكتشفوا القبر داخلَ منحدرٍ على تَـلٍّ إِبّـان حفْرهم مَـلْـجـأً يحمي من الغارات الجوية. كانت المومياء ملفوفةً بــ20 طبقة من الحرير، وموضوعة داخل 4 نعوش ممتلئةً فحمًا ومغلَقَة بالصلصال لـمَنع تَسَرُّب الماء كي لا تبلُغَها الجراثيم الآكلة. ووُجد في القبر مع الجثة 100 ثوب حرير و160 شكلًا خشبيًّا يُرجَّح أَنها لخُدام السيّدة.

هذه الظاهرةُ الدَهرية، بكامل تكاوينها، أَخذَتْني إِلى التأَمُّل في جُذُور لبنان الدهرية، وكيف لم تستطع عاصفةٌ أَن تقتلع كيانه، ولا زلازلُ أَن تُقوِّض جذوعه، ولا مُؤَامرات داخلية أَو خارجية أَن تَخدُش سطوعه في التاريخ. وها هو رغم العواصف والزعازع ما زال جميلًا بهيًّا جاذبًا، ما زالت لديه الحيويةُ الداخلية، ما زالت فيه جميع مكوّنات الحياة العضوية نابضةً بأَنقى ما في النبض من قُدرة على البقاء، وما زال يَعصى على التحنيط رغم محاولات خَنْقه أَو قَـتْـله أَو إِزالته عن السُطوع العبقري قَدَرًا ومبدعين وشعبًا مـخْلصًا مناضلًا لأَجل بقائه وخُلوده، ولم يستطع أَحدٌ أَن يَسحب منه روحه النارية العاصية على الجمود أَو الانحناء أَو السُقوط في الحالة الموميائية. ذلك أَنّ لبنان، منذ كان في هذه البقعة من الجغرافيا وفي هذا الموقع من التاريخ، ذو طاقة فريدة، وظاهرةٌ نادرة جدًّا بقُدْرته على الوقوف دائمًا في وجه الشمس: عالي الجبين، متوهّج العينين، صخريّ الصدر فلا تخترقُه عوابـر ولا خيانات.

 هذه القوّة لم تكن فيه يومًا بفضل ساسته المتقلّبين على حبال تحالفاتهم ومصالحهم وموروثاتهم، بل كانت دائمًا في شعبه العنيد على صلابة الإِيمان به، وفي مبدعيه مدى كل حقل يركزونه وطنًا غير عاديّ: ضئيل الجغرافيا، قليل الديموغرافيا، إِنما جليل الإِرث الحضاري الطالع لا من أَرضه بل من عبقرية شعبه المقيم، والمنتشر في العالم مناراتٍ لا تخنُقُها عتمة ولا تُطفئُها أَنواء.

 هذا هو السر الذي يجعل أَنْ لن يكون لبنانُ يومًا مومياء ولو سليمةً منذ 2000 سنة بل وطنًا حيًّا منذ أَكثر من 2000 سنة، وهكذا سيبقى: لن تُـحنِّطَه نوايا الشر، ولن يكون إِلَّا كما كان منذ فجر تاريخه: لا مساحةً جغرافيةً حياديةً، ولا مسافةً زمنيةً باردةً، بل عقلًا شاعلًا في التاريخ الذي يَشهَد عبر حقبات الزمن على عبقرية العقل اللبناني.

هـنـري  زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib