هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“أَزرار” – الحلقة 958
أُوكازيون : قصائد لكل الأَذواق
“النهار” – السبت 24 أَيلول 2016

جاءَني قبل أَيام في بريدي الإِلكتروني إِعلانٌ غريبٌ عجيبٌ يَعرض مُرسِلُه “بَيع قصائد” لـمَن يرغب، ويوضحُ بكل “إِخلاص”: “مشاعرُكَ أُترجمها لكَ في قصيدةٍ، بِـكل سِـرِّيَّة تامة، فتصبح مُلْكاً خاصاً لكَ، يحقّ لك نشرُها باسمكَ في أَيّ وسيلةٍ إِعلامية”. ولم ينْسَ أَن يختُم رسالته بأَرقام هاتفه وعنوانه الإِلكتروني، وأَن يُطَمْئِنَ الشاري بــ”التخلّي عن جميع حقوق الملكية الفكرية”. وفي السياق يفصّل أَنه “جاهز لكتابة قصيدة أَو اثنتَين أَو حتى ديوان كامل”. وتشمُل الكـتابة أَنواع الشعر من مدح أَو هجاء أَو رثاء أَو غزَل.

ويحفل موقع هذا “البيَّاع” بآلاف المتابعين والـمحاورين عارضي الشراء، حتى اعترف أَن التكسُّب بالشعر ليس مهنتَه لكنه دَرَّ عليه المال الكثير فتخلَّى عن مهنته وامتهن “بيع القصائد”، واضعًا لكلٍّ منها سِعرًا بحسَب موضوعها وعدد أَبياتها. وكي لا يخسر زبائنه يفاوضهم بحسومات مُرضية وأَسعار متهاودة وفْق إِمكاناتهم.

هذا الأَمر رفضَه الشعراء منذ جاهليّـيـهم، باحترامهم قدسيةَ الشعر ونُشوبِهم ضدّ أَيّ فكرة أَو فلْذة من بيت أَو شطر منحول، لشدّة تعلُّقهم بحرفيّة ما يصدر عن الشاعرِ الناحتِ قصيدتَه بيتًا بيتًا. وها الشعر اليوم يتسلَّع مع “بيّاعين” يتاجرون بالقصيدة كأَنها بضاعة تجارية أَو زراعية أَو صناعية، ولو انهم طبعًا لا يَـمَسُّون جوهر الشعر ولا هالة الشعراء الأَصيلين، لكنها ظاهرةٌ تعتدي على الشعر كفنٍّ عظيم، أُسوة بسائر أَنواع الفنون الكبرى، وتطال الكثيرين وخصوصًا زوار المواقع الإِلكترونية الشعبية وهُم في معظمهم من مستوى ثقافي شعبي غير عميق، فيتداوَلون أَو “يشترون” تلك “القصائد” على أَنها “شِعر” كسائر الشعر الذي يعرفونه أَو يقرأَونه، غير قادرين على التمييز بين النظْم الأَجوف والشعر العميق.

هذه الظاهرةُ نعرف بعضها في الزجل، وهو في ذاته فَنٌّ كبير غيرُ سهل، إِذ يستسهل بعض شعرائه المبالغةَ في المديح أَو الرثاء أَو الغَزَل إِرضاءً للممدوح أَو الـمرثيّ أَو الـمَرأَة، ومنهم من “يتساهلون” بكتابةِ زجليةٍ لِـمن يطلبها ليلقيها في مناسبة تهمّه.

إِن القصيدةَ معاناةٌ، وكـتابتَها فعلُ وضْعٍ مُضْنٍ بعد مخاض، وتقديـمَها إِلى القرّاء عمليةٌ بروتوكولية شريفة ذاتُ طقوس ورُتَب. لذا لا يجوز تسخيفُها و”بيعُها” كأَيّ سلعةٍ رخيصةٍ أَو خطابٍ سياسيّ، لأَن عامة الناس إِجمالًا لا يُـميِّزون بين قصيدة نظْمٍ “مُباعة” وقصيدة شِعرٍ “مُصاغة”، ولا بين كلام منظوم مَنحولٍ وشِعر ينزف شاعرُه فلذةً من عمره كي يَصوغ القصيدة فتستاهلَ أَن تكونَ من الشعر.

من أَرخص ما في هذا الزمن: مزاولةُ ناسٍ في مواقعهم الإِلكترونية التجرنةَ بكل رخيص، دون رقيب ولا وازع، وبلوغُهم في التجارة أَن “يَـمتهنوا”… “بَـيع القصائد”.

هـنـري  زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib