هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

نقطة على الحرف- الحلقة 1248
من أَجل خَنجرٍ وعباءة
الأَحد 20 آذار 2016

                أَصدر وزيــــرُ الثقافة البْريطانيُّ قرارًا بتجميدِ مقْتـنيات توماس إِدوارد لورنس – المعروف بـ”لورنس العرب” – ومنْعِ خروجها من بْريطانيا: خَنْجرًا أَهداه إِياه الشريف ناصر سنة 1917 بعد انتصار الثورة العربية على القوات التركية في العَقَبة (الأُردن)، وعباءاتٍ وجلابيبَ اشتُـهر لورنس بارتدائِــها إِبّان تنقُّلِهِ في الدُوَل العربية. وفرَضَ قرارُ الوزير أَلّا تُباع إِلّا لبْريطانيٍّ يتعهَّد الحفاظَ عليـها “داخل البلاد” تحت طائلة العقوبة الشديدة.

                ولورنس – أَحد أَشهر أَعلام الحرب العالمية الأُولى في الشرق الأوسط – كان بـدوره هاويَ آثارٍ ودﭘـلوماسيًّا وضابطًا ورجلَ مخابراتٍ عمِلَ في العالم العربي وتعامَلَ مع قادةٍ عربٍ، وكان يرتدي جلابيبَ من الحرير الأَبيض النادر المصنوع في مكة والمدينة.

وزيرُ الثقافة بـرّر قرارَه بأَنّ “لورنس شخصيةٌ بْــريطانية غيرُ عادية في القرن العشرين، وخَنجرُه وملابسُه جُزءٌ أَساسيٌّ من الصورة الشهيرة عنه، ويجبُ الاحتفاظ بها داخل بْريطانيا.” وأَردف الوزيرُ  مستشهدًا بعبارة ونستون تشرشل: “كان لورنس أَسرع من الناس العاديين في فوريّة المبادرة وإِبراز الشَجاعة وحصد النتائج”.

                هكذا إِذًا: رغم موقف بْريطانيا السلْبي ضدّ العرب أَيام لورنس، تُحافظ بْريطانيا اليوم على ذاكرةٍ عربيةٍ لافتةٍ في تاريخها. وإِذا كانت مقتنياتُ لورنس من التراث المادّيّ، فالأَهمُّ منها: التراثُ غيرُ الماديِّ الطالعُ من صفحةٍ تعتبرها بْريطانيا رئيسةً في تاريخها الحديث.

وأَيًّا تكُن حقيقةُ لورنس: بطلًا في نظَر البعض، أَو عميلًا خائنًا في نظَر البعض الآخر، فهو شخصيةٌ جدليةٌ تجعلُها بلادُهُ الأُمُّ رمزَ علاقاتها بالدُول العربية، وتحفَظ في هذا الرَمز ذاكرتَها التي تبقى ببقاء مقْتنياته على أَرضها.

                إِنها هُويَّة البلاد لا تتخلّى عنـها ولا تُعيرها بالانتماءِ إِلى أَيّ بلَد آخَر. هويةُ البلد: جُذورُه في المكان والزمان، لا نقاشَ فيـها، وليست شمَّاعةً تُغَــيِّر مكانَــها بِتَغَـيُّر الأَوضاع السياسية والظروف التاريخية والتطوُّرات الظرفية والعلاقات الاستزلامية.

الانتماءُ إِلى الوطن ثابتٌ كاللَون في علَم الوطن. وكُـلُّ وطنٍ يسعى إِلى حفْظه والحفاظ عليه، لا تُـراثًا مادِّيًّا وحسْب (فهو من مـتروكات الماضي وبَديهيٌّ أَن يُصان) بل تراثًـا غيرَ ماديٍّ: شفويًّا أَو شعبيًّا أَو تاريخيًّا، وفي التاريخ أَوطانٌ كثيرةٌ زالت معالِـمُها الماديَّةُ وبقيَت أَصداءُ تراثـها الإِنساني الحيّ تتردَّد في كل عصرٍ شاهدةً على حضورها المتواصل في جميع حقبات التاريخ.

هكذا ذاكرةُ التاريخ تَخدُم خُلودَ الوطن.