هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أزرار- الحلقة 917
الحُبّ الحقيقيّ لا يَـرضى الـهَـرطَـقَـة *
السبت 21 تشرين الثاني 2015

          أَمضيتُ ليلتَين هذا الأُسبوع مع شِعر ﭘــول إِيلُوار. كنتُ نهِماً لقراءته “شاعرَ الحُب” كما يُـوَصِّفه دارسوه. وللحُب عندي مهابةٌ وحُرمةٌ قدسيةٌ في الـمُطْلَق الأَعلى من مراتب العواطف الإِنسانية. أَقول “الحُب” وأَقصِدُ التَكَرُّس التامّ، وأَقصِدُ الانصراف الكلّيّ، وأَقصِدُ التَصَومُع تَـنَـسُّكاً ما سوى لامرأَةٍ واحدة.

          فهل كان ﭘـول إِيلُوار كذلك؟ أَقرأُ في سيرته: كان في داﭬـوس (سويسرا) يستشفي من السِلّ الذي صعقه فتعرَّف إِلى الروسيّة هيلينا دياكونوﭬـا (سمّاها “غالا”) وتزوَّجها، لكنها تحوَّلَت عشيقةَ الرسام ماكس إِرنست فَبَهَرَتْهُ ثم عشيقة سلفادور دالي فتزوّجتْهُ. بعدها تعرَّف إِيلُوار في حانة ﭘـاريسية إِلى الأَلمانية ماريا بِــنْــز (سمّاها “نوش”) فـتزوَّجها لكنها ماتت فالتقى في المكسيك أُوديت لومور (سمّاها “دومينيك”) وسرعان ما تَـزَوّجها (1951) ليموت بعدَ سنة.

          أُولئك “مُلْهِمات” إِيلُوار كما صَنَّفَهُنَّ دارسوه، ومايَـزوا لكلِّ منهُنَّ قصائدَه في الحُب. فكيف يمكن هذا التوَزُّع على ثلاث نساء (عدا عشيقاتٍ بينهُنّ) أَن يُطْلع “شاعر حُب”؟

          ذاك توزُّعُه على المستوى العاطفي. ومن توَزُّعِه على المستوى الإِيديولوجي: انضمّ إِلى الحركة الدادائية مع أَندريه بروتون، ومعاً أَطلقا موجة العبثية والجنون واللامعنى بلوغاً إِلى السوريالية واعتبارِ اللغة هدفاً لا وسيلة. انضوى في الحزب الشيوعي مع لويس أَراغون لكنه سرعان ما انفصل عن الحزب. انضمّ إِلى موجة ﭘـيكاسو. هجَر السوريالية. خاصم الدادائيين. الْتَزم بـحركة المقاومة الفرنسية مناضلاً في صفوفها شِعراً ونثراً وبياناتٍ وصحافة، وراح يعلن أَن الشعر “فن اللغة والأَداة الخُلُقية الخلاَّقة”.

          لا أُناقش هنا شاعرية إِيلُوار الـمُكَــرِّسَـتَـهُ من كبار شعراء فرنسا في النضال والمقاومة. أُناقش سِـمَـتَـه “شاعر الحُب” لأَنني لا أَقتنع بــ”حُبّ” يتوزَّع على نسوة ثلاث. لا أَرى الحُب ينبع أَوّلاً من الشاعر ويروح “يُغدِقه” على هذه المرأَة أَو تلك أَو على مجموعة نساء في حياته. الحُب الحقيقي ينبع أَوّلاً “مِن” امرأَةٍ واحدةٍ وحيدة، وينصرف “إِلى” هذه المرأَة الواحدة الوحيدة: منها يأْتي الحُب إِلى الشاعر، وإِليها وحدَها يتكرَّس. وإِلاَّ يكون مجرَّد غَزَل يقال في هذه أَو تلك، فالحُب عندها (أَعتذر من الحُب على استعمال اسمه في غير موضعه) يكون افتراضياً متَخَـيَّـلاً من أَجل الكتابة. الحُب ليس عُذراً ولا حُجّةً لكتابة الشعر. الحُب “هو” الشعر، وإِلا فالشِعر نَظْمٌ بارد “يُهدى” إِلى أَيِّ امرأَة.

          شِعر الغزَل افتعال (قصائد سعيد عقل)، وشِعر الحُب انفعال (قصائد الياس أَبو شبكة).

          وما سوى ذلك هرطقةٌ على اسم الحُب. والحُب لا يَرضى في صومعته ضجيجَ الـهَرَاطقة.


* “النهار” السبت 21 تشرين الثاني 2015