هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أزرار- الحلقة 892
من رائحة الموت إِلى عطر الحياة
السبت 16 أيار 2015

         بدءاً من أَيلول المقبل يضاف إِلى البصَر الشمُّ في استذكار الغائبين: قارورةٌ صغيرة تحفظ رائحتهم، وتبقى بين محفوظات الأَهل من أَغراض شخصية وصُوَر وﭬــيديو وأَشرطة صوتية.

         ذلك أَن سيّدة فرنسية صَعَقَتْها وفاةُ والدِها وأَرادت حفْظ رائحته فاتصلَت بخبير في جامعة هاﭬْـر اخترع تقنية تَسحب نحو 50 ذَرَّة من ثوب الشخص وتُحوّل رائحتَها سائلاً في قارورة. وبنجاح التجربة تعاون ابن تلك السيدة مع عالـم كيميائي لـ”تصنيع” الرائحة وسيبدأُ بـــ”تسويقها” تجارياً (مع مطلع أَيلول) لدى شركاتٍ لدفن الموتى تَبيعُ، ضمن “خدمات المأْتم”، قارورةً من رائحة الفقيد.

         أَثَرُ الرائحة في التذكار أَعادني إِلى رواية مرسيل ﭘــروست “بحثاً عن الزمن الضائع” وفي مقطع منها: “الرائحةُ،كالروح، تَـبقى طويلاً تَـتذكَّر، تَنتظر، تَـأْمَل، وتُبقي عالياً في البال صرحَ الذكريات”.

         كما تذكّرتُ في رواية “العطر”، للكاتب الأَلماني ﭘـاتريك سُوسْكِنْد، بطلَها جان باتيست غرُونُوْيْ الذي ولدَتْه أُمه في مقبرة معزولة ثم تخلَّت عنه فتنقَّل من حاضن إِلى آخَر، وكبُرَ لا رائحة له لكنه يفكِّك الروائح. وصادف يوماً في ﭘــاريس فتاة عذراء أَثارتْه رائحةٌ معيّنة في جسدها فقتَلَها واحتفظ برائحتها محوّلاً إِياها إِلى عطر. وراح يتسلَّل في ﭘــاريس ويقتل غريزياً عذارى تفوح من جسدهنّ تلك الرائحة التي تثيره، حتى قتل منهنّ 24 عذراء، وانتهى الأَمر به إِلى تهشيمه إِرَباً بعد انكشاف جرائمه.

         الرواية صدرَت في زوريخ سنة 1985 وباتت مترجَمةً إِلى 50 لغة بـيع منها حتى اليوم 15 مليون نسخة وتحوَّلت سنة 2006 فيلماً بعنوان “قصة مجرم” لاقى هو الآخَـر رَواجاً عالـمياً واسعاً.

         أَتناول هذه الظاهرة، وأَذهب بها أَبْعدَ من رواية سُوسْكِنْد الفائحة بالموت والجثث والقتلى والضحايا، وأَبْعدَ من “خدمات المأْتم” التي ستوفرها شركات دفن الموتى لحفظ رائحة الفقيد.

         أَذهَبُ بها إِلى النقيض تماماً: إِلى الفرح، إِلى النور الـمُحْـيـي، إِلى الشمّ المنعش، إِلى لحظات التذكار.

         أَذهَبُ بها إِلى الحُب. وفي الحُب تزهو الحواس الخمس. وبعد تجربة جامعة هاﭬــر سـتزدهر في الحُب حاسةُ الشم، وكم يَهمُّ العشاق حفْظُ قطعةٍ من ثوب الحبيبة أَو من أَغراضها، فكيف برائحة جسَدها مُـكَــبْــسَــلَــةً في قارورة؟

         هكذا، حين الحبيبةُ ليست في جَلال الحضور، تُحضِرها وسائطُ تكنولوجية وإِلكترونية فيتمتّع البصرُ بـجمالها الفُتون، والسمْعُ بصوتِها الحنون، والشَّمُ بـرائحةِ جسَدها يَحفظُها العاشق في “قارورة الحب”، ويَروحُ يَـتَــنَـشَّـقُــها شَغوفاً كلَّما هَـبَّ به الوَلَــهُ الوَلُوع إِلى استحضار لحظاتٍ يغيب فيها عن وعي واقعه الـمائــع إِلى لاوعي حُـبِّـه الرائع!