هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

نقطة على الحرف- الحلقة 1177
“الجهاز”
الأَربعاء 12 تشرين الثاني 2014

 

          على باب الطائرة يقف، مُـمْسكاً بجهازه بين إِصبعين كي لا يحجُبَ جسمَ الجهاز فيبانَ للمارّة أَنه أَحدَثُ طِراز.

          ولا يَرعوي عن التكلُّم بصوتٍ مرتفع كي يَــنْــتَــبِــهَ مَن لم يَــنْــتَــبِــه، ويتطلَّعَ مَن قد يَـمُـرُّ ولا يتطلَّع، ويفهمَ مَن يَجب أَن يفهمَ أَنّ معه أَحدثَ جهاز.

          ويأْزَفُ موعدُ إِقلاع الطائرة، ويَستوي الرّكّاب في مقاعدهم، ويَطلُب القبْطان إِطفاء الأَجهزة الـخَلَوية، ويُكمِل صاحبُنا حديثَه – بالصوت العالي طبعاً – وليس الـمُهمُّ من كلّ حديثه إِلا لفتَ النَّظر بأَنه يحمل “أَحدثَ جهاز”.

          ويتكرّر هذا المشهد في المطعم والمقهى والساحة والمكتب وأَيِّ مكان عام، والصيغةُ إِياها دوماً، والصوتُ المرتفع إِياه دوماً، والتشاوُف الأَجوفُ إِياه دوماً: لَـفْتُ النظر إِلى هذا الجهاز الذي لم أَفهم بعدُ لـماذا يَسحَر حامليه إِلى هذا الحد حتى يباهوا به، مع أَنّ فيه ما في سائر الأَجهزة من خدَمات إِلكترونية تستقبل الاتصالات والبريدَ الإِلكتروني والرسائلَ النصيةَ القصيرة وكلَّ ما يحتاجه حامِلُه من خدماتٍ تَنفَعه وحدَه من دون أَن تعني لِـمَن حوله، وقد يكونُ بينهُم مَن يحمل الجهازَ ذاته إِنما من دون عَراضةٍ ومن دون تشاوُفٍ ومن دون زعيقٍ مُــدَوٍّ مقصودٍ لاجتذابِ انتباهِ الناس حولَه أَنه يحملُ هذا الجهازَ الأَشْوَس.

          غريبٌ أَمرُ بعض الرجال: يتباهَون بجهازٍ خَلَويٍّ كما تتباهى نساءٌ بِـمُجَوهراتـِهِنّ.

          صحيحٌ أَن الحِلِيّ من زينة المرأَة وطبيعة أُنوثتها، لكنها تُصبح حِلىً كاريكاتوريةً إِذا المرأَةُ كلُّ قيمتِها في حِلِيِّها وحين تَنطُق تسقُط التماعاتُ الحِلِيّ، تماماً كجهاز الخَلَوي الذي يَتباهى به رجلٌ كأَنه زينةٌ فاخرةٌ ينتمي إِليها، وحين يَنطُق لا يَبقى من الزينة إِلاّ هيكلُها الأَجوف.

          هذا التشاوُفُ عندنا، وهو ينخُر مجتمعَنا في معظمِه، يَجعلُ أَركان هذا المجتمع سابحين على وجْه الماء دون العمق في التفكير والتعبير، متباهين بِـمظاهرَ وظواهرَ سرعانَ ما تَتَغَيَّـر وتَزول فلا يبقى من الـتظاهُر سوى هيكله الخارجي.

          الأَجهزةُ الإِلكترونية نعمةُ هذا العصر وليست جوهرتَـه. والنعمةُ أَن نَستفيدَ منها لقضاءِ أُمورنا وتصريفِ شُؤُوننا وتفعيلِ حياتنا اليومية تسريعاً للوقت.

          أَمّا حين يُصبح تَصَرُّفُ الرجل تَشاوُفاً بِجِهازٍ خَلَويّ أَو ساعةِ يدٍ أَو نظّاراتٍ أَو ماركة ثياب أَو موديل حذاء، فيا تَـعْسَ مَن لا يَـرَون من الحياة إِلاّ قُشُورَها، لأَن مصير القُشور أَن تَسقُط يابسةً بعد حين، ويا سَعْـدَ مَن يَبني حياتَه على اللُبّ النابض لأَنّ النبضَ فيه يَبقى على جوهَرِه، لا كــ”جواهر” القشورِ الظاهرةِ تَشَاوُفياً ما سوى لِــلَــفْت انتباه الآخرين.