هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

7 حلقات إِذاعية

الحلقة الأُولى: أَنا والطفولة والبُذور الأَدبية الأُولى

قبل أَن أَختارَ صفحاتٍ موجَزَةً من سيرتي الذاتية في هذه السُّباعية الإِذاعية، أَعترف أَنّ كتابتَها تراودُني منذ مُدّةٍ لسببَين: أَنني من مُحبِّي قراءة السِّيَر، وخصوصاً السِّير الذاتية، فكيف بكتابتها؟ وأَنني منذ مدةٍ تراودُني فكرة كتابة سيرتي الذاتية، وأَنا أَتحيّن الفرصة لكتابتها. ولكنْ لا كانت الفرصةُ تأْتي ولا كنتُ أَمام موجبٍ لكتابتها، إِلى أَن طلبتْها مني الزميلة “وردة” لسُباعيةِ “من دفاترهم” في إِذاعة “صوت لبنان”، فوجدتُ دعوتَها حافزاً لكتابة سيرتي الذاتية التي، بعد قصائِدي، هي أَغلى كتاباتي.

وهي ذي الحلقة الأُولى من هذه السباعية حول طفولتي وصباي ومطالع الكتابات فيهما.

***

لا أَذكر أَنني، في طفولتي، كنتُ كثيرَ الاختلاط بأَترابي. تروي لي والدتي أَنها كانت تدفعني دفعاً إِلى اللعب معهم، غير أَنني كنتُ أُوْثِرُ أَن أَبقى في البيت، متصفحاً مجلاتٍ وكتباً، أَو مخربشاً على أَوراقٍ بيضاءَ أَمامي لم تتنبّه يومها، أَو لم يَعْنِها يومها، أَن تحتفظ بها ذكرى لذاك الطفل الذي يُمضي معظم وقته في خربشاتٍ على الورق.

بعد سنةٍ أُولى (لا أَذكرُ منها أَو عنها أَيَّ أَثَر) في مدرسةٍ لراهبات العائلة المقدسة المارونيات قرب البيت في صربا، انتقلتُ سنة 1957 إِلى معهد الرسل في جونيه، ملتحقاً في قسم الصغار بالصف التاسع، حتى إِذا ترفّعتُ في العام التالي (1958) إِلى الصف الثامن، أَذكر أَن معلّمتي الكانت تدعى روزيت صقر، كانت توقفني إِلى اللوح الأَخضر وتجعلُني أَقرأُ نصوصاً من كتاب القراءة. أَحببتُ تلك المعلّمة ووجّهتُ إِليها أُولى كتاباتي في عيد المعلّم. لا أَتذكَّر ماذا كتبتُ يومها لكنني أَذكر أَنها أَوقفتني في احتفال عيد المعلم، وطلبَت مني أَن أَقرأَ بطاقة معايدتي إِياها، ما ولّد في قلبي شعوراً، كان غامضاً وقتها، لكنه لاحقاً تبَلْوَر أَن يكون اغتباطي بالوقوف أَمام جَمْعٍ وإِلقاء كلمة.

مديرة قسم الصغار يومها، الأُمّ ماري رينيه الزعنّي، على قسوتها وحزمها، كانت نديةَ التعامل معي وراعيَتي في تلك الكتابات البدائية. وكانت ذات خطٍّ عربي جميل كم كنتُ أَستمتع به حين تكتُب لنا عباراتٍ على اللوح كي نَـنسخَها عنها بتأَنٍّ وتؤدة.

في السنة التالية (1959) ترفّعتُ إلى الصف السابع (المسمّى يومها صف السرتيفيكا) فحظيتُ بِـمُدرِّسٍ للعربية حبّبني بها أَكثر، هو ابرهيم حبيقة (ابن مدينتي جونيه الذي علِمْتُ في ما بعدُ أَن محمد عبد الوهاب قال عنه إِنه أَمهر عازف عود في لبنان). في نهاية تلك السنة، فزتُ لديه بالجائزة الأُولى في الإِنشاء، فكان نصيبي كتاباً لم يلْفتْني منه عنوانٌ ولا مؤَلّفٌ بل عبارةٌ عند غلافه وسْع قصاصة ورق بيضاء مكتوبٌ عليها “الجائزة الأُولى في الإِنشاء نالها التلميذ هنري فارس زغيب” وتحتها توقيع المدرِّس ابرهيم حبيقة الذي لم يَدرِ أَنه يومها كان يرسّخ بي تعلُّقي بـِمَلَكة الكتابة. بعد سنواتٍ طويلة لاحقة، حين أَخذتُ أَنشُر وتَصدر لي مؤلفاتٌ وبرامجُ إِذاعية وتلـﭭـزيونية، وأَلتقيه في جونيه، كان يُربكني أَنْ يناديني “أُستاذ” هو الذي كان أُستاذي في سنة لافتةٍ من حياتي المدرسية.

في بحر تلك السنة (1959) دخلَت علينا الأُخت ماري رينيه طالبةً أَن نسأَل أَهلَنا إِن كانوا يوافقون على إِشراكنا بمجلةٍ للصغار اسمها “دنيا الأَحداث”. ولـمّا كان والدي مؤْمناً بموهبةٍ زَغبةٍ تتكوّن لديَّ في عالم الكتابة، لم يتردّد أَبداً في الموافقة، فاشتركتُ بتلك المجلة التي كانت لي أَول الطريق إِلى الكتابة والصحافة والأَدب والشعر، ومَدخلاً إِلى معلوماتٍ فيها منوّعةٍ مفيدةٍ كنتُ أُعجَبُ لها بـمُؤَسِّسة المجلة ورئيسة تحريرها لورين الريحاني وأَتمنى لقاءَها يوماً كي أَتعرّف بها، غيرَ مدركٍ يومَها أَنني سأَلتقيها بعد سنواتٍ طويلة وأَدخُل بيتها في الفريكة لأُصبح من أَقرب المقرّبين فيه إِليها، ولو في مَرضِها الْمُقعِد، وإِلى زوجها أَلبرت الريحاني، وإلى أَولادها أَمين ومي ورمزي، أَصدقائيَ المقرّبين أَمس واليوم وغداً وكل يوم.

في نهاية تلك السنة (1959) كان حظّي من “شطارتي” في الكتابة دَوراً صغيراً في مسرحيةٍ للأَولاد قدَّمها قسم الصغار في معهد الرسُل، وضعَها وأَدارها مدرِّس الفرنسية يومها في المعهد أَندريه شاهين، الذي سيُصبح أُستاذي وصديقي في ما بعد، ويكونُ أَولُ كتابٍ مطبوعٍ يحمل اسمي سنة 1971 هو قصته “أَرز” التي ترجمتُها من الفرنسية إلى العربية وصدرت كتاباً في اللغتين.

في السنة اللاحقة (1960) ترفّعتُ إِلى الصف السادس، وانتقلتُ من قسم الصغار إِلى القسم المتوسط في جناح آخَر من معهد الرسل. وحظيتُ سنتئذٍ بـمُدرِّس آخَر للعربية: فيليب أَبو شقرا شجّعني أَكثر فأَكثر على الكتابة، وكان غالباً ما يَطلبُ مني أَن أَقرأَ مواضيع الإِنشاء في الصف أَمام رفاقي، مشجِّعاً إِياي في حماسةٍ عالية. وكان أَوّلَ من أَطلق عليّ عبارة “شاعر الصف” التي أَطربتْني يومها وأَدخلَتْ بي حس حبِّ الشعر. وحين بعدَ سنواتٍ طويلةٍ كنتُ أُعطي، سنة 1997، أُمسيةً شعريةً من قصائدي في بلدتِه “مزرعة الشوف” سَعدْتُ به بين الحاضرين، حتى إِذا انتهَت الأُمسية وجاء يهنّئني، صافحتُه بإِجلالٍ ومحبةٍ ونوستالجيا، وذكّرتُهُ بفضله عليّ وتلقيبي بـ”شاعر الصف”. وسرّني أَنّه ما زال يذكر ذاك اللقب أَضفاه علَيّ، حادساً (“من يومها”، كما قال لي) بما قد أَكونه لاحقاً في عالم الشِعر. في تلك السنة المدرسية (1960) بلغ من تشجيع إِيايّ على الكتابة والشعر أَنْ عصَفَ الغرورُ بــ”يأْفوخي” في الامتحان الشفوي آخر تلك السنة. ذلك أَن الفاحص طلب مني، في مادة الاستظهار، أَن أُلقي قصيدة “بيتي” لنِزار قباني ومطلعُها:

في حرجنا المدروز شوحاً سقفُ منزلنا اختفى…

حرسَتْه خمسُ صَنوبرات فانزوى وتصوَّفا

فأَلقيتُها مترنّماً مُطَرِّباً حتى إِذا وصلتُ إِلى البيت الأَخير: “وحدودُ بيتي غيمةٌ عبرَت وجنح رفرفا” وتوقّعْتُ أَن يسأَلني عن صاحب القصيدة، حملني “الانْطراب” إِلى أَن أُضيف عليها مني بيتاً مرتجَلاً ختمتُ به فقلتُ: “…ونزار قباني شاعرٌ هذي القصيدةَ أَلّفا”. انتظرتُ أَن يهنّئني ذاك الفاحص على البيت المرتجل الأَخير، لكنه زجرني بغضبٍ قائلاً: “يا إبني طلبتُ منك أَن تُلقي قصيدة لا أَن تؤَلِّف قصيدة. أُتركِ الشِعر للشعراء فلستَ سوى تلميذٍ صغير”.

أَذكرُ أَنني غضبتُ منه يومها غضَباً شديداً على كَسْفه إِياي بهذا الشكل القاسي عوضَ أَن يشجّعني، وتمنّيتُ أَلاّ أَراه أَو أَلتقي به في المعهد بعدذاك، حاكماً عليه أَنه ضِدّ الشعر والشعراء. ولم أُدركْ لحظتَها أَنه سيكون هو نفسُه أُستاذي في السنة التالية: الشاعر موسى المعلوف الذي سيكون ذا فضلٍ كبيرٍ عليّ في الشعر بالذات، وسيرسّخ بي توجّهي صوب الأَدب، وبعد أَربعين سنةً من ذاك التاريخ سيطلب مني أَن أَكتبَ له مقدِّمةَ أَول ديوان شعري أَصدره، مباهياً أَن يكتب المقدمةَ مَن كان تلميذَه في الماضي وبات زميلَه في الشعر بعدذاك.

صيفُ 1961 من تلك السنة المدرسية كان حافلاً بحدَثَين لافتَين في براعمي الأَدبية، كلاهما حصل في ضيعة ستي زوق مصبح التي كنتُ أُمضي فيها ردحاً واسعاً من أَيامي الصيفية.

الحدث الأَول أَنْ كانت لِبَيْت سِتِّي جارةٌ اسمها بديعة، معروفة بـ”بديعة مَرْتْ ديب” لها ابنة اسمها إِلهام كنتُ آنَسُ بالجلوس إِليها متمتّعاً بكتاب اللغة العربية لديها، أَروح أَقرأُ بنَهَمٍ لذيذٍ نصوصَه الأَدبية، وأَراقبُ في آخِر كلّ نصٍ اسم كاتبه وصورته والنبذة عنه في إِطار أَصفر، حالِماً أَنْ قد يَجيءُ يومٌ أُصبح فيه أَنا أَديباً تَقتطِف من نصوصي كتبُ المدارس، وتضع في نهايتها اسمي وصورتي ونبذَةً عني، غير مدركٍ يومها أَنني سأُصبح لاحقاً لا أَديباً يُقتطَف من نصوصه للكتب المدرسية وحسْب بل مؤلِّفاً أَقتطِف من نصوص الأُدباء، في سلسلة مدرسية معروفة وضعتُها اشتراكاً مع الزميلَين الصديقَين كمال الشرتوني والياس الحداد. وكم أَلتقي اليوم بمن يقولون لي إِنهم في سنوات دراستهم الابتدائية درسوا في تلك الكتب: “أَيام ودروب”، “أَيام ومشاهد”، “أَيام وجنى”، أَو في عنوانها المجدَّد اللاحق “عقود الكلام”.

الحدث الآخَر من تلك الأَيام أَهمُّ وأَبلَغ. في صيف تلك السنة (1961)، وكانت العادة أَن نُعطى “فروض العطلة الصيفية”، كان جدّي يعود آخرَ النهار من الدكان في ساحة الضيعة (زوق مصبح)، فتضع له ستي العشاء على طاولة واطئة يتربَّع وراءها، وحين ينتهي من العشاء يسأَلني: “هات. ماذا كتبتَ اليوم”؟ فأَقف أَمامه وِقفةً خطابية، وأَنا بالشورت طبعاً، وأَروح أَقرأُ عليه فروض إِنشاء أَكون كتبتُها ذاك النهار. ذاتَ مساء، وأَنا أَقرأُ عليه فرض الإِنشاء، وكان يومها “صِفِ الطبيعة في أَيام الربيع”، لاحظتُ عينيه ترغرغتا بالدمع، على عادته حين ينفعل تأَثُّراً فترتجف شفتاه ويَحكُّ قمة رأْسه، حتى إِذا انتهيتُ من القراءة بلهجتيَ الخطابية وصوتيَ المرتفع (على غير مبرِّرٍ طبعاً) قال لي: “ستكون شاعراً وسأَعتَزّ بك”. وحين استدرتُ لأُعيدَ دفتري إِلى حقيبة كُتبي في الزاوية، وبادَرَت ستي إِلى رفع طاولة العشاء الواطئة، طنَّت في سمعي عبارةٌ قالتها لجدّي: “ما فهمت شي من كل اللي قالو الصبي. يقبرني ان شالله، بيحكي متل الشعّار. بس يا ميلاد، أُوعى بكرا يطلع متل هاك الأَخوت عنّا بالزوق”.

ونمتُ ليلتها، تتردَّد في بالي عبارة ستي ليلى عن ذلك الأَخْوَت: ما علاقته بما قلت؟ ولماذا شبّهتني به؟

صباح اليوم التالي، فور استيقاظي، وفيما ستي تلفّ لي عروس اللبنة، سأَلتُها: “من هو هذا الأَخوت الذي خفْتِ أَن أُصبح مثله”، فأَجابتني بحيادية لافتة: “مش مهم، تقبرني، هيدا واحد أَخْوَت كان عنا بالزوق (زوق مكايل)، يمشي وحدو ع الطريق، حامل عصا، ويهزّ بكتافو ويحكي وحدو. أَخْوَت. حدا بيقلّك أَخْوَت. قال بيقولو كان شاعر. اسمو الياس بُو شبكه”.

في تلك اللحظة بالذات، أَحْسَسْتُ بقُشعريرةٍ فهمتُ لاحقاً بعدها أَنها قشعريرة الشِعر دخلتْني لتكرّس الشعر بي.

بعد ست سنوات ماتت ستي وهي لا تدري بأَنّ عبارةً عابِرةً قالتْها لجدّي ذات ليلة من ليالي طفولتي، رسَمَت قدري مع الكتابة، وحوّلت طريقي نهائياً صوب الشعر.