هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

عن الكتاب

 

هنري زغيب في ديوانه الشعري الجديد:

الربيع الآتي على متن الخريف

__________________________________________________الدكتور جان نعّوم طنّوس

في منحدر العمر، يوم يغشى الضباب العينين، وتصير الوحدة سجناً بلا رفيق، تبدأ طريق الصعود، وتواصل الحياة دورتها. ومن أحشاء الظلام الداكن ينبثق النور الطفل، ويدبّ النشاط في الأخشاب المهترئة، وتكون الولادة الجديدة. أن تتألم، يقول نيتشه، يعني أن تتحوّل. وليست الصيرورة إلا هذا اللقاء الجميل بين ماضٍ مولٍّ وآتٍ يشفع بالزلاّت. ومن الناس من يعيش مللاً ورتابةً في هذا البيت الخريفي، بيت الستين، ومنهم من يعيش شوقاً وصبابةً حين تعانقه طفولة نضرة، ولدت في مهد الأوجاع، ونمت في أحضان الحب المخلّص.

“ربيع الصيف الهندي” للشاعر المرهف هنري زغيب عنوان غريب لافت. ففي شمالي أميركا يجيء الصيف غالباً في أواخر أيلول، ولا يستمر إلا بضعة أيام، ثم ينقضي. أما الدلالة الشعرية فهي أنه يحدث تجديداً مفاجئاً، أو متأخراً، شأن الحب المداهم في اصفرار الأوراق والشمس الهاربة، وإذا به ربيع آخر يقهر الزمن الذي تقول عنه فيروز، بما معناه، إن الحب يغلب الوقت، ولكن الوقت أيضاً يغلب الحب.

والديوان قصيدتان مطوّلتان: الأولى بعنوان “ربيع الصيف الهندي”، والثانية تتناول الثنائيات، وهي سبع ليست كالخطايا السبع، وإنما هي نعمٌ وفيوضٌ وبوارق تظهر عجيبة مفاجئة، يكلّلها الحب، وتحرسها إلاهة النغم.
في القصيدة الأولى شيء كثير من التضاد المبني على الماضي الأسيف والحاضر البهج. ولئن كان العمر غروباً منطفئاً، وشيخوخة للروح، وعكّازة للحنين، فها هو الشروق ينفض الجمر، ويستحيل الخريف ربيعاً. هي أعجوبة الحب، وكم في الحياة من أعاجيب تغيب عن مرمى البصيرة. إن تجربة الاتحاد أرقى أنواع الرقيّ، إذ بوساطتها يحدث التحول ويصير الإثنان واحداً. العزلة الكئيبة كالشجرة المسنّة تختفي، ويتعانق شعاعان ينصهران انصهار حنين الرجل إلى المرأة، وشوق الأنثى إلى طوبى جديدة. فالحب عودة إلى الحياة الجنينية، لا على سبيل النكوص، وإنما هو الدخول إلى رحم جديدة، حيث يحتمي العاشقان من مخاطر العالم الخارجي، ويصبحان كوناً واحداً، فيلتئم الجرح، ويعود الينوبع الأول الذي شرب منه الإنسان قديماً، ينبوع التناغم الداخلي والوحدة السعيدة.

وجدتكِ ! يهتف الشاعر. كنت شريد الصحارى، مفرّغاً من أناي، يقول متوجعاً، منهوك القوى. على أن الصيف الهندي، كعصا الساحر، يطلّ فيكون العمر أرجوحة، وكالأواني المستطرقة يمتلىء الواحد بالآخر، وتحصل حالة من وحدة الوجود الوجدانية، إن صح التعبير، وتزول الغربة الكالحة، غربة شجرة تضنّ عليها السماء بالمطر، وتقف وحيدة في الفيافي. هو الحب فيه شيء من النعمة الآلهية، ومن الاهتداء أيضاً، وتتراءى المرأة شفيعة ومخلّصة وخالقة للرجل، وباعثة على السلام، بل قلْ إن فيها شيئاً من التأله الأدونيسي لأنها تشيع الخصب الروحي، وتجدّد شباب العمر، وتحلّ الربيع الداخلي بعد هذا القحط الطويل.

هكذا نرى في القصيرة مجموعة من الثنائيات التي تبدو متناقضة، للوهلة الأولى، ولكنها بفعل تجربة الاتحاد تتعانق مانحةً السرّ الذي فتّش عنه الأقدمون، ذلك الإكسير السحري الذي يمنح السعادة، ويعطي للعمر نكهة. وفي القصيدة الثانية يتناول الشاعر موضوع الثنائيات في أقسام سبعة. ففي القسم الأول “الزمن وأنا” تتجلّى المرأة، شأن العذراء مريم، باسطةً كفيها لتنقذ الحبيب من الغرق والانحدار من شاهق. صحيح أن السنين مأساة، أو كانت كذلك، غير أن الحب زيت يبلسم الجراح، ولعلّه شبيه بميرون العمادة: يذوب الأمس المكتئب، ويولد الغد على يدي عاشقة تفتح طريق المستقبل، وتسدّ ثقوب الماضي.

وفي القسم الثاني وعنوانه “السوى”، يقيم زغيب مواجهة بينه وبين الناس. هم بادلوه عقوقاً وغرفوا من معجنه، وصلبوه حقداً، لكن الحبيبة بمنزلة الفصح بعد ليلة الجمعة المروّعة. لا بدّ من عودة الشتات، شتات النفس الموزّعة في الآخرين، ولا بدّ من أن يتجمع العاشق وينبسط في أفياء الشعور الجديد حيث الحنان، ولعلها كلمة لم تتتناهََ غلى مسامع أهل الكراهية. ففي الأقسام كلّها نوع من الثنائية الضدية، الموجعة، وفيها أيضاً من يرأب الصدع، ويزيل الشقوق، ويفيض النعمة. ولماذا لا تكون المرأة غيماً يظلّل، وهل من دون غيمٍ يدفق المطر؟! لقد انقسمت الذات قديماً، وها هي الآن تتوحّد وتفنى فيها الأنا الفاصلة لتخطى بـ”النحن” الجامعة.

يعادل الحب، إذاً، التحرر والسعادة. إنه حجّة ضد العمر القاتم، غالب الزمن وقاهره، ولولاه لكان الرجل الستيني حجراً مرمياً في طريق متنائية، أو نبتة تستمد النسغ من دمائها. وبذلك يكون ديوان “ربيع الصيف الهندي” تحدياً سافراً للخريف والأوراق المتساقطة كالسنين المهرولة. أما الشكل الشعري فقد اعتمد الشاعر هنري زغيب السطر بدلاً من البيت، وربما يكون هذا السطر كلمتين، وربما يستطيل إلى كلمات داهشات مفاجئات. والسرّ في العمارة الزغبية هو التأنق وإسقاط التفاصيل، واللعب على ضمائر اللغة، واستيهام الإيقاعات المتغاوية، إضافةً إلى الصور الصادرة عن مناطق قصيّة، حيث تكمن مملكة الأعماق. ولا ريب في أن هذا الامتزاج الغريب بين الربيع والخريف، بين الشيخوخة والولادة، بين الـ أنا المنقسمة وهذا الاتحاد المفضي إلى ملكوت مخضلّ، هو ما يمنح النص روعةً وجمالاً، ويتيح للقارىء اكتشاف النظائر والأضداد. وكل هذا الذوب الوجداني يتمهّل بك، ويحملك على متن غيمة، بعيداً عن هذا العالم. نعم، بعيداً عن هذا العالم إلى عالم مغاير تكتشف فيه الله إذ تكتشف ذاتك ضائعة في ثنايا الحبيبة.

فتحيّة إلى هذا الرجل الذي تخطّى الستين، وما زال قلمه في مدرسة الحب، لا ينهي دروسه، ويتأبى المصالحة، ويتعالى على النضج، بمعنى الاكتمال النهائي. أوَلَم يصوّر الأغارقة إيروس بصورة طفل يطلق السهام. لا ! إنه يفيض النعم والإلهامات، ويحملنا إلى سماء جديدة، فتكون لنا أرض جديدة، ولغة جديدة نُسْقى من ألبان ثدييها، كما يجاهر شاعر الألم أبو شبكة، أو كما يقول سعيد عقل مشيراً إلى قصر سحري يقبع في الأعماق: “أنا جبتُ ذاتي وأفرغت / أغنية المطلبِ / أنا ثروة كالكآبة / عمقاً وكالغيهبِ / قل الفتح غمسك في الذات / كفاً من الصلّبِ / ورشفك نفسك رشف / العتيق من المشربِ”.

**************************************************

بوحُ ربيعٍ سِتِّينيّ … في الصيف الهنديّ

 ___________________________________________________________ناتالي خوري

هو شعُّ ربيعٍ طلٍّ، من شرفة فجرٍ هلَّ، شرقة صيفٍ شهق لها العمرُ، فكانت “نجمة العمر” التي حوّلت خريفَ شاعرٍ على”مشارف الستّين” إلى ديمومة “ربيع لا يعرف الهَرَمَ”، ثمرته آياتُ حبٍّ ضَمّتهما دفّتا هذا الديوان الجديد “ربيع الصيف الهندي” للشاعر هنري زغيب صادراً عن “دار الساقي” بيروت- لندن 2010، في 112 صفحة.

الديوانُ شرنقةٌ لفّتْها خيوطُ الحبٍّ، غزلتْها حرارةُ الشوقِ، أنضجها “تصالُب شُعاعين”، فطارت فراشات ربيعيّة حوّمت في فضاء الشعر وألقه، شهادةَ حبٍّ وبوحَ ميثاق، خطّته نبضاتُ حبّهما “عمرًا من الأمنيات” نحو الأفق المترامي، وكان هذا الديوان إعلاناً لبداية زمنٍ جديد، وعمرٍ جديد، ودنيا جديدة، وإعلاناً لخاتمة أحزانٍ وفراغٍ، وإقفالاً لأبواب ماضٍ أليم.

هو يقظةُ وعيٍ، وذوقُ نضجٍ، على مفترقٍ بين الماضي والحاضر، لشاعرٍ أتى من هوّة الخيبات يجرّ وراءه أخطاءه وخطاياه، وأتى من تيه الصحارى، من وجع غربةٍ أثقلتْه فبات “يحذر المِزَقَا ويخاف النَزَقَا”، وأتى من لسع “سياط السِّوى” و”سُموم عيونهم” على قلبٍ “قضّته براثنُ العمرِ”، نادى حبيبةً استجابت فكتبَها قصيدةً أنارت عمرَه، وكانت “نجمة عمره”.

***

الديوان في أربعة أقسام.

القسمُ الأوّل بيانُ الشاعر في تسع صفحاتٍ تعريفاً بهذه القصائد: ظروف ولادتها، هاجس العمر الذي يقضّ مضجعه على مشارف الستين، اعترافه بالحبّ الذي حوّل حياته، اعتراف بمصالحة تمّت بين الشاعر فيه والرجل بفعل حبٍّ زلزل كيانه، وهو اعترافٌ فصَلَ فيه الشاعر بين شعر الغزل المقنّع، وشعر الحبِّ الصافي الذي يخلع الأقنعة، في حوار مع الذات يدعو فيه إلى تصالح جسد الحياة بجسد اللغة.

في عملية إحصائية بسيطة لهذا البيان- الاعتراف، نرى أنّ البطل فيه هو الزمن، أو بالحريِّ الخوف منه، بحيث نرصد ما يزيد على المئة كلمة متكرّرة عن الزمن والضمائر التي تعود إليه: العمر- مرحلة فاصلة من عمري- الستّون- وعي الزمن الهارب-الحاضر- المستقبل- الماضي- صحوة العمر- غسق العمر- يتصالح الزمن في أبعاده- انصراف العمر- صباح عمرٍ- الخريف- الغروب- صبح دائم- الربيع الدائم- متأخّر- يرحل- غدي- ربيع الصيف الهندي-.

نلاحظ أنّ جميع النعوت أو الإضافات المتعلّقة بالزمن الماضي، تَنُمُّ عن خيبة وخوف وألم وأخطاء وخطايا وسياط وهدر وقضم، بينما الجُمَل المتعلّقة بالزمن الحاضر هي جُمَل استفهامية فيها التردّد والخوف من ارتياد المجهول، وإتقان دراسة الاستعداد والجهوزيّة لما يمكن أن يكون، فالحاضر هنا متمثّل بمرحلة الستين التي يعتبرها الشاعر مرحلةً فاصلة في عمره بحسم الخيارات: أأختار؟ أأدخل؟ أأقفل عائداً؟ أما زال عندي عمر؟

أما زمن المستقبل، فترافقه مفردات التغيُّر والتجدُّد ووداع السنين المالحة والاستقالة منها. إنه زمن تخطّي التردُّد والدّخول إلى زمن جديد، إلى ربيع يطول، تزيّنه نجمةُ عمره، فالنجمة ُدليلُ ربيع دائم لا يعرف الغروب. إنه إقفالُ كلّ الزمن الماضي أملاً بصبح دائم.

***

القسم الثاني قصيدة طويلة حَمَل الديوانُ اسمَها “ربيع الصيف الهندي”. و”الصيف الهندي موسم شائع في أميركا الشمالية يأتي غالباً في أواخر أيلول، لا يعيش سوى بضعة أيّام وينقضي، ومدلوله “تجديد يأتي مفاجئاً أو متأخِّراً”.

هذه القصيدة فتحٌ لِمجال جديد في زمن القصائد. يُحدد الشاعر زمانها “في العام 2023″، والمكان “ذات شاطئ”، وهو بذلك أراد أن يطمئنَّ على صواب قراره في الدخول إلى ربيع جديد، فيستبق في رؤياه الزمن الآتي، ويخطُّه كما يريد أن يكون، أي أراد استبقاء حبّه حبًّا ربيعيًّا فكتب ديمومة ولَهِهِ وهِيامِهِ، مستبقاً خمسة عشرة عاماً ليعلن على الملأ صواب خياره، ومن ثمّ يعود تدريجاً إلى الوراء ليذكر ماضياً جميلاً. كأني به أراد أن يكتب ماضي الأيام اللاحقة فاستبق الزمن ليرجع إلى اللحظة الحاضرة في جمالها محاولاً كتابة خلودها.

الحبّ في هذه القصيدة متجدِّد ولَهاً وهياماً ليبلغ الخريف وهو في الربيع. أراد في هذه القصيدة أن يتحدّى الزمن والعمر مدى لعبة الفصول، في حبِّه “نجمة عمره” بكلّ ما فيه من قدرة تحويليّة على تخليد لحظة السعادة بقوّة الحبِّ الصافي وذوق نضجه. فوعي الحبّ عند الشاعر أروع من الحبّ.

أمّا المكان الذي حدّده الشاعر: “ذات شاطئ”، فهو فعليًا رمزٌ إلى دفق الحب وسعته، إلى المدى وأفق مترامٍ لا يُمكن أن يحدّ حبيبين به. يصبح الحبيبان أكبر من المكان، يطالان الأُفق بامتداد آمالهما، يُخْصبان الوقت عمراً “فيمضيان معاً إلى آخر العمر. وهكذا يقول في ختام القصيدة:

“أيا ذاك “صيف الهنود”

بدأناكَ لكن سَتُكمِلُ وحدَكْ

لأنّ حبيبي سيُكمِل بعدكْ

هرِمْنا من الأمسِ

لكنّنا بِصِبا العمر في غدنا نحلمُ

نذوق خريف الحياة معًا

ربيعًا من الحبِّ لا يهرمُ

غدًا يا حبيبي، متى نَهرُمُ” (ص 34).

إنّه تصوير إرادة حبيببين في المضيّ معاً إلى آخر العمر على طريق رسماها بحبّهما وأملهما.

إنّها إرادة المصالحة بين الحاضر والمستقبل في مفهومٍ للزمن كما عند برغسون “الزمن بمعنى الديمومة” DUREE “وليس “TEMPS”، أي دفعة سيّالة أو مجرى متحرّكًا، وهو الزمن الحقيقي الذي أراد الشاعر الاعتراف به ورسمه لديمومته كما يشاء. فالحاضر، أي “الآن”، نهاية الماضي وبداية المستقبل، به ينفصل أحدهما عن الآخر. فهو فاصل بينهما بهذا الاعتبار، وواصل بينهما باعتبار أنّه حدٌّ مشترك، وحبيبة الشاعر أو “نجمة عمره” هي الحاضر بكلّ قوته وحضوره، هي المرحلة الفاصلة بين الـ”ما قبل” والـ”ما بعد”، هي القدرة التحويلية من الحزن والفراغ والأسى إلى العبَق الذي يغمُر الغمر، هي من يحولَّ الخريفَ ربيعًا، والمحدودَ أفقًا، والثنائيّةَ واحديّةً.

***

القسم الثالث من الديوان هو ثنائيات قسّمها الشاعر في سبعة أبواب.

والثنائيات محاولةٌ في “كبسلة القصيدة” كما يسمّيها الشاعر، أرادها إيجازًا وإلماحًا، مشغولةً على تقنيّة فنيّة، يربط بينها الزمن بين ماضٍ يئنّ من لوعة أليمة، وحاضرٍ يَعِدُهُ بالفجر الآتي ربيعًا لا يعرف الهرَم.

في كلّ ثنائيّة حالةٌ أو حدث، مناسبة أو مزاج فصلٍ من حياتهما معًا، تتوحّد في زمن واحد.

في كلّ ثنائيّة ثنائيّات. إذا حاولنا تتبّع ظاهرة ثنائيّة الضمائر التي يتقن فنَّها الشاعر في مختلف أبواب قصائده السبعة، نراه في الباب الأول “الزمن وأنا” وعى نفسه يخاطبها فيستخدم ضمير المتكلم مستترًا ومن ثمّ متّصلاً: “أراني” أي أرى نفسي، والضميران في أصلهما متوحّدان في ذاته ويعودان إليه ليدرك الخطوة التي يقوم بها. هو الفاعل والمفعول معاً. ومنها: أَحْمِلُني- خطوتي- ثم ثنائية ضمائر المتكلم مستتراً ومنفصلاً مع ضمير الغائب التي تعود إلى الزمن والخوف منه: أما الـ”أنتِ” هنا فحاضرة مستعدّة للتدخُّل في فعل الخلاص بانتظار أمر الشاعر وطلبه:

“يقضّني العمرُ

تبدو لي براثنه

خوفي ليغدرني من سقْط مرتفَعِ

أكاد أغرقُ في خوفي

وفي لججي تجتاحني!!!

فابسطي كفيّكِ واندفعي” (ص 46).

في الباب الثاني “السّوى”، ثنائيةُ ضمائر تقوم على المتناقضات، بين “أنا” الشاعر والـ”هُم” أي الناس الذين جلدوه بسياطهم وسموم عيونهم، والثنائية الضديّة في أفعالهم مقابل أفعال الشاعر: تماهوا/ ارتحلوا/ بادلوني/ عقوقًا- حاقدون/ وعي الحقد… والـ”أنتِ” حاضرةٌ مستمعة عن ماضي الشاعر بانتظار إشارة منه للتدخّل:

“لا تعذُليهم:

تماهوا فيَّ وارتَحَلوا

وبَادلوني عُقُوقًا ليسَ ينْكَفِئُ

كَفَاهُمُ أنّهم واعونَ حقدَهُمُ

وَاَنَّهم من جُذى حُبّيهِمِ دَفِئوا” (ص 57).

وفي موقع آخر يقول:

“رَأَيتِ أن أصْعُبَ

استهوَلْتِ أن غرفوا من معجني

واستباحوا منّي المؤَنا” (ص 58).

في الباب الثالث “بعضٌ من حبّنا”، حكاياتٌ تجمع التقاءهما وانشدادهما معاً بالـ”كيف” ووعي الـ”كيف” وإدراكه. وثنائية الـ”أنا” والـ”أنتِ” موجودة لكنّ الضمير الضيف هو ضمير الغائب الذي يعود إلى السماء وجنّةٍ أدخلته إليها الحبيبة فيقول:

“بَلى… أُحِبُّ!!!

وهَا استاهَلتُ نِعمَتَها هذي السَّماءَ

التي كم لي أُمَنيّهَا

طوباكِ

أدْخَلْتِنيها!!!

أَنتِ نِعمَتُهَا

إِيْ

فَلْنَعشْهَا معًا

لِلْعُمرِ نَبْنيهَا (ص69)

في الباب الرابع “نحن والشعر”، ضمائر الـ”أنا” والـ”أنتِ” حاضرة أيضاً، لكنّ الضمير الضيف هنا هو الشعر والكتابة: تتماهى الحبيبة في الكتابة والشعر، فهي نبضه والشعر سُكناها، وشعره على قدْرِما تناداها استجابت فبدَت كأنّها هي التي كتبت. وهنا مرحلة مفصليّة في الانتهاء من التكلّم عن الـ “ما قبل” وآلامه. إنها سيطرة حضور “الآن” ومفعوله في الشعر والكتابة وابتداع الزمن الجديد:

“أعودُ إلى الشِّعرِ؟

أم هوَ عادَ إليَّ لأنّكِ أنتِ به؟

لأجليَ خلّيكِ نَبضًا لهُ

وَحينَ يلوحُ لكِ

انتَبِهي! (ص 74).

في البابين الخامس: “منكِ”، والسادس: “إليكِ”، لا وجود إلاّ لضمائر الـ”أنا” والـ”أنتِ” مع وصف عبء الغياب وروعة اللقاء في تَكَوْكُبِ ليلٍ، وبهاء ربيعٍ، وبرق كيانٍ. يحتويها وتحتويه، لتنبض القصائد ضَوعاً وبَوحاً وفَوحاً أزاهير حبٍّ ربيعيّة تملأ الفضاء، لأنّ الشاعر هنا يحب، فعلاً يُحِبّ، ويذوق نضج حبّه ويعيه، ما يعطيه فرحاً مضاعفاً.

الباب السابع والأخير “أنتِ وأنا”، يستخدام ضمير المتكلم في الجمع “نا” لينتقل من الثنائية إلى الواحديّة بعد وعي هذا الحبّ، فيقول:

“هذي أتيتِ!!!

تَتَوْأمنا

يشدُّ بنَا إلى اللقاء

حنينٌ غابرُ العَبَقِ

كأَنْ وُلِدنَا معًا

في قلبِ شرنَقَةٍ

أنتِ الـ”أنَا”!

وأنَا؟

ما من “أنا”يَ بَقيْ” (ص 105).

في هذه الحالة من ترقّي الحبّ وسُمُوّه، بعد الاستنارة به، فَنِيَت “أنا” الشاعر في من يحبّ ففني عن نفسه فناءً تَليه متعةُ البقاء في من يحبّ. هكذا يصل الشاعر إلى أقصى حالات الحبّ الممكنة، في ارتقاء تسلسليّ تصاعديّ رصدناه في حركة الضمائر ومدلولاتها. ها هو يتصالح مع نفسه ويقفل أبواب ماضيه الحزينة ليبدأ زمناً جديداً يقطف وحبيبته منه دنياهما الجديدة، فيختم بالتوأمة بينه وبينها كارتدادٍ لما بدأه في قصيدته الطويلة “ربيع الصيف الهندي”: تصالُب شعاعين، وتوأمة عاشقين حوّلا الحياة ربيعًا دائمًا.

***

القسم الرابع في الديوان هو القرص المدمج “محاولة أولى في إلكترونيّة القصيدة”. وهي محاولة في إيصال الصوت والصورة تأكيداً على صدق صوته العاشق، وتالياً تأكيداً على أنّ صنعة الشعر لا تقلّ أهميّة عن انسكابه ملهَمًا في الكلمات.

جديد هذا القرص المدمج أنّه محاولة أولى في تسهيل تفكيك القصيدة، وتالياً تحليلها، فنجد الثنائية الواحدة تلوّنت بألوان أربعة: الأوّل لجميع الحروف التي يربط بينها تنسيق صوتيّ يجعلنا نجد الروّي والإيقاع الداخلي للقصيدة، اللون الثاني للكلمات التي تشكّل الثنائيات الضديّة التي تصب في خدمة معنى تهدف الثنائيّة إيصاله، اللون الثالث للثنائيات المتقابلة أو الكلمة المفتاح، واللون الأخير هو الذي تظهر به جميع حروف القصيدة.

قراءة الأبيات بصوت الشاعر ترافقها موسيقى راقية هي مقطوعة “الربيع” من رائعة فيفالدي “الفصول الأربعة”، تتناغم مع القصيدة بوحاً وحبّاً وربيعاً، مع رسوم ولوحات تتتالى في مشهديّة تتتناغم مع الصورة والصوت واللون، ثم تروح الكلمات – بعد أن يسلّط الضوء على إيقاعها وثنائياتها الضديّة والمتقابلة- تتراقص على صدى صوت الشاعر فتتمايل خصورها على السطور ANIMATIONS، كأنّ الحبّ تجسّد فعلاً في الكلمات فتحوّلت عاشقات تحوّمن حول ربيع طال انتظاره ليحتفلن به.

نتمنّى أن تتعمَّم هذه التجربة على قصائد تراثية وحديثة، لما فيها من متعة للمستمع والمشاهد، مع إفادة من طريقة التحليل ورصد الكلمات المفاتيح ومَوَاطن الإيقاع والروي، خصوصاً عند عرضها على شاشات كبيرة لطلاب المدارس والجامعات. ومن تجربتي  الشخصية مع طلابي لهذا النموذج من القصائد في طريقة عرضها ومشهديتها، أجزم إنّها طريقة نموذجية في تدريس القصائد وتحليلها وتفكيكها، فيها متعة وفائدة، مع التصالح الكلّي بين الشعر والتكنولوجيا، بل هي “رَوحَنَةُ” التكنولوجيا.

ختاماً، أتذكر قولاً للباحث والفيلسوف الحيّ “سيّد حسين نصر” في كتابه THE GARDEN OF TRUTH “فردوس الحق” حول جدوى الكتابة عن الحبّ، وكيف توقظ في عقل القارئ وعياً يجعله مهيّأً لاختبار الحبّ في درجة معيّنة”.

هكذا تتأجّجُ نارُ الحبّ عبر الكلمات الملائمة، إذا كان جوهر النفْس مهيَّأ للاحتراق بنار الحب.

فالحبّ هو الحياة، وأن تكون أحببتَ حقًّا، يعني أن تكون حَييتَ حقًّا.

من هذا الباب جاء هذا الديوان شهادة حبٍّ ربيعيّ تجاوز صيف الهنود من مرحليتّه إلى ديمومته، فنقَلَنا فيه الشاعر من مفهوم الزمان بما “هو الوقتُ كثيرُه وقليلُه” إلى الزمان بما هو في أساطير اليونان: إلهٌ يُنضِجُ الأشياءَ ويوصلُها إلى نهايتها.

********************************************************

رسالة من الوزير زياد بارود

Z. Baroud