هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أَزرار- الحلقة 831
“الشِعرُ خَلاصُ العالَم” (جوزف حرب)
السبت 15 شباط 2014

 

          سكَت.

          هذه الـمرّة سكَتَ للمرة الأَخيرة.

          وطويلاً كان يَسكُنُ سُكوتَـه كما ليُصغي إِلى صدىً يأْتيه من الشعر فيُلْبِسُه صوتَ القصيدة.

          بعد اليوم لن تشغلَـه القصيدة، هو الذي كان ينسحب من كلّ سوىً إِلاّها كي يتفرَّغَ لها.

          وكافأَه هذا التفرُّغ ببلوغِه قصيدةً ظلَّ يُـؤَنّـِـقُـها جديدةً حتى خرجَت لا تُشبه أَيةَ جميلةٍ من صبايا الشِعر.

          كان واعياً أَنّ الشعر ليس تَــرَفاً، ليس هامشاً، ليس وقتـاً حين يتيح الوقت.

          كان واعياً أَنّ الشعر شُغلٌ واشتغالٌ وانشغال، وقتٌ هو قلْبُ الوقت واتساعاتُه، وما عداه وقتٌ ضئيلٌ إِذا أَتاحه الشعر.

          كان واعياً أَنّ القصيدة نَـحْتٌ في الزمن كي تتركَ للزمن هوية الشعر، من هنا إيمانُه بأَنّ “الشعرَ خلاصُ العالم”.

          لم يكن “يَكتُب” القصيدة. كان “يَنحت” القصيدة في مرمر الجماليا بـإِزميلِ بساطةٍ طالعةٍ من عُمقٍ ذي خيالٍ خصيب.

          لم يُـخْرِجْـها عن تُربتها الأُولى ولا جاء بها من مناخٍ مستعار. بقي في التفعيلة الأَصلية وراح يُوسِّع الخيالَ الشاعـرَ إِلى أَقاليمَ جديدة، حدودُها العَروضُ لكنّ قلـبَـها نابضٌ بتجديدٍ دائمِ البحث عن شكلٍ آخر للمضمون.

          كتَبَ النثر في ضَنى كتابة الشعر ولم يَدَّعِ أَنه شِعر. وكتَبَ الشعر”حديثاً” في التزامه بالتجديد من داخل الأُصول وقواعدِها والخروجِ “منها” لا “عنها”، وانطلقَ في فضاءاتٍ ملتزِمةٍ بالحرية المسؤولة، لا تُغريه تسمياتُ حداثة تريد أَن تُلغي، أَن تَتَـنَـكَّر، أَن تـتـفـلَّت من حريةٍ إِبداعيةٍ يـراها قَيداً مَن يَعجَز عن بلوغِها.

          يوم طلبتُ منه الـمُشاركة في افتتاح متحف الياس أَبو شبكة (حزيران 2008) استمهَلَني فترةً مستطيلةً قبل أَن يُجيب، وحُجَّته: “سأَرى إِن كنتُ سآتي جديداً عن هذا الشاعر”. وعند موافقته اتّخذ فترةً أُخرى للــ”نَـحت”، وغاب يتنسَّك للقصيدة التي ظَلّ إِزميلُه يعملُ فـيـها صقلاً ونحتاً وتجويداً حتى صبيحة الاحتفال، فجاءَني مُـتـعَـباً يلهثُ من إِنجازٍ، كأَنما وَصَلَ ماشياً من أَقاصي الـمعمريّـة [ضيعته] الجنوبية صُعُداً إِلى تلّة زوق مكايل.

          وجاءَت قصيدتُه يومَها، كما اعتاد أَخَواتها، جديدةً شكْلاً ونَفَساً ومضموناً و”أَبوشبكـيّـاً”، ما جعلَها ضوءاً مغايراً في شلاَّلِ ما جاءَ به النثرُ والشعرُ عن أَبو شبكة منذ غيابه حتى اليوم.

          وهكذا قصيدتُه، فُصحاها ومَـحكـيُّـها: دائماً أَنيقةٌ، دائماً ساطعةُ الجمال، دائماً مشغولةٌ كـــ”إِسوارة العروس”.

          ولعلَّه أَغمضَ عينيه مُطْمَـئـنّـاً إِلى أَنه تَركَ لأَناقةِ الشعر جمالاً لا يَذوي بعد انقضاء الربيع.

          جوزف حرب، يوم ودَّعناه، استـقـبَـلْنا على اسمه فَجراً عالياً للشِعر نَعرف أَنه لن يغيب.