هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

حرف من كتاب- الحلقة 132
“مدينتي تنّورين”- الأب يوحنا قـْـمـَـير
الأَحَـــد أَول أَيلول 2013

 

إِذا الكلامُ على واحةٍ من لبنانَ مُشوِّقٌ لاكتشافِها والرغبةِ في زيارتِها، فالشوقُ يَعْذُبُ أَكثرَ حين الكلامُ نَشَقٌ يَضوعُ من قلمٍ نحَّاتِ صياغةٍ والتماع.
أَمامي كتاب “مدينتي تَنُّورين” في طبعةٍ أَنيقةٍ لائقةٍ على نفقة وزارةِ السياحة سنة 2003 من 64 صفحة حجْماً أُفُقياً مستطيلاً زاخِراً بِصُوَرٍ من معالِـم تَنُّورين الطبيعية الشاعرة، ونصوصٍ تنضَحُ شِعراً من قلم الأَب يوحنا قمير.
أَفتحُ الكتابَ وأَقرأُ: “تَـمُرُّ الأَيامُ وتسمَع تُربة المهد تسأَلك: “أَنسيتَ أَنّ بعضَك من تراب”؟ فيوقِظُ السؤالُ بي الحنينَ وأَعودُ إِليكِ يا تَنُّورين، أَجوبُ الأَرجاء، أَذكرُ ما طَمَسَتِ السنين، أَعرفُ ما جهِلَهُ الصبيّ، أَتبيَّن ما هو أَثمنُ وأَفتن، وها أَنا أُوْدِعُ في كتابٍ ما لا يَحويه أَيٌّ من كُتُبي: أُودِعُ عُجْبي وتِيهي وحُبي”. بهذا الاعتراف يشهَرُ حبَّه مدينتَه تَنُّورين، ويعودُ إِليها، حضْنَ ولادتِه وصباه، في دهشةِ مَن يكتشِف من جديدٍ ما لم يكتشفْه في السنوات الخوالي من مطلع العمر.
يبدأُ دامجاً بلدتَين فيها وقريتَين، يصهرُها جميعاً بالواحدة الموحّدة: تَنُّورين، تَبسُطُ جمالَها من دوما وجبل فغري إِلى حدود اليمُّونة، ومن حدود العاقورة إِلى حدود بشرّي وحدَث الجبة، ليؤكِّد أَنّ لتَنُّورين حجمَ مدينةٍ كبيرةٍ تتوسَّط أَجملَ واديَين في لبنان: وادي القديسين ووادي نهر أَدونيس، كما تتوسَّط أَجمل مَعْلَمَين تَقَوِيَّيْن: أَفقا موئل أَدونيس وعشتروت، وأَرز الرب موئل خلود لبنان.
وإِذا باسمها سِريانياً: “تَنُّور”، وعربياً: مُضارِعُ “نَارَ” أَي “أَضاء”. وتُخاصر تَنُّورين ناحيةَ “حُوب” وهي “الحُبّ” الـمُتقَطِّرُ نفحةً من سنديانة الدير العتيقة حيث راهبٌ منقَطِعٌ إِلى التعبُّد، والتَّعَبُّد لا يكون إِلا بكلّيّانيّة الانصراف في غيبوية الانخطاف.
ويمرّ “بونا حنا” على تَنُّورين الفوقا ومصايفها: الحريصة ووادي الجرد واللقلوق، وعلى تَنُّورين التحتا: مشتىً ومصيفاً تحتضن عين الراحة ووادي تَنُّورين، وترقى إِلى جرجس أَبي قرقماز جَدّ العائلات التنُّورية الخمس.
يردِّدُ الـ”بونا”: “نقِفُ على الحجر، ندنو من السماء، تلفُّنا كبرياء، سجيّة البشر”. وتَعبُرُ عيناه مواسمَ اللون من ينابيع تَنُّورين، إِلى تفّاحها والكرز والإِجاص، إِلى خُضْرتها فُولاً وملفوفاً ولوبياء، إِلى زهرها وَرداً وخُزامى وقرنفلاً وأَضاليا وبخور مريم.
ويتذكَّر الثلجَ من طفولته يرسُم شَقْعُهُ لوحاتٍ طبيعيةً تـُمجِّد سحرَ الخالق في صنائعه، ويسرُد المغاورَ: من مغارة الرَّهْوة إِلى مغارة اللقلوق إِلى مغارة نبع الشيخ، فإِلى بالوع بعتارة وبالوع المحبسة وبالوع جورة العبد وبالوع المغراق حتى عين روما العجائبية.

غير أَنّ وِقفات “بونا حنا” تتباطأُ في تَنُّورين على رؤُوس صُخورٍ هي منحوتاتٌ طبيعيةٌ ساحرةٌ لم تبدِعْ مثلَها يدٌ ذاتُ إِزميل، فينسحر بأَشكالها النحتيّة من إِزميل الطبيعة طوال آلاف السنين، ويتذكَّر قولَ نيتشه: “في كل صخرةٍ منحوتةٌ تغفو”، وقولَ بودلير: “جميلةٌ أَنا جمالَ صخرةٍ حالـمة”. ويَسكَرُ القُمير الشاعر بأَرز تَنُّورين القديم قِدمَ أَرز لبنان، ويتبسّط في تَنُّوريّة الأَرز مساحةً وعُلُوّاً وعدداً وأَحجاماً ومحميةً غالية، مستشهداً بما جاء عنه في الكتاب المقدّس، ومنه عن حزقيال: “أَأَنتَ سروةٌ؟ أَم أَرزةٌ من لبنان وارفةُ الظلّ، جميلةُ الأَغصان، شامخةُ القامة، غائرةُ الرأْس في الغَيم”.
ويتمهَّل الكاهن عندَ ما في مدينته من آثار فينيقية ويونانية ورومانية وصليبية، مروراً بكنائس تَنُّورين مشكوكةً فيها أَيادي مؤمنين ضارعين إِلى رب العالمين، تعريجاً على محابس ومحابيس وأَديار، وُصولاً إِلى دير حوب وسنديانتِه الحنونِ ذاتِ السنوات الأَلفية.
“مدينتي تَنُّورين” بكلمات الأَب يوحنا قمير، مدينةٌ تضوعُ نُوراً وجمالاً بقلمٍ زادَ من نورها الطبيعي، ولَـمَّعَ جمالَها على مرآةِ كلماتٍ تعرف كيف تتأَنَّقُ إِذ تُناهي إِلينا انسياباتِ الجمال.