هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

حرف من كتاب- الحلقة 128
“متحف الذاكرة: تحية لبيروت المدينة وأهلها”- مجموعة باحثين
الأَحَـــد 4 آب 2013

أَن يختزن مبنىً قديمٌ ذكرياتِ شارعٍ وحَيٍّ ومدينة، ظاهرةٌ عاديةٌ جديرة بالحفْظ. أَما أَن يتحوّل المبنى متحفاً لتلك الذكريات، مُـخَلِّداً ذاكرةَ المدينة وأَهلَها ماضياً قريباً ومستقبلاً بعيداً، فظاهرةٌ غيرُ عاديةٍ جديرةٌ بالتقدير وتحية الوفاء.
هي هذه الرسالةُ التي تَفوح ناصعةً من كتاب “متحفُ الذاكرة: تحيةً لبيروت المدينة وأَهلها” الصادر بالإِنكليزية سنة 2009 عن “المؤَسسة الوطنية للتراث” في 48 صفحة حجماً كبيراً، مُـخَصَّصٌ ريعُه لتغذية صندوق المؤَسسة التي تعمل على “حفْظ هذا المبنى إِرثاً غنياً للأَجيال المقبلة”، مواصِلَةً منذ تأْسيسها (1996) دأْبَها على “صيانة التراث اللبناني حفْظاً، وإِعلاماً، وترميماً”.
هذا المبنى (الـمعروف بــ”المبنى الأَصفر” أَو “بناية بركات”)، تأَمَّنَ حِفْظُهُ بعد جهد ستِّ سنواتٍ من الحمَلات قام بها ناشطون في حفْظ التراث، حتى التوصُّل إِلى استصدار المرسوم الجمهوري 10362 (26 حزيران 2003) صدر في العدد 31 من الجريدة الرسمية (3 تموز 2003) تصديقاً قرارَ بلدية بيروت (9 نيسان 2002) باستملاك العقار 1237 “من أَجل المنفعة العامة لإِقامة متحفٍ وملتقىً ثقافي وفني وحضاري ومكانٍ لِـحفْظ أَبحاثٍ ودراساتٍ تتناول مدينة بيروت عبر التاريخ”.
إِلى هذه المعلومات، يتضمَّن الكتاب صُوَراً للمبنى مأْخوذةً بذكاءٍ فوتوغرافـيّ من جوانب برّية وجوية مختلفة، وتفاصيلَ وأَجزاء منه وقطعٍ متروكةٍ باقيةٍ من دمار شوّه المبنى طوال حرب شرسة دارت منه وفيه وحوله وعليه سنواتٍ مالِـحةً مطاطةً قاسيةً جعلتْه هدفاً للقصف، منطلقاً للقنص، وشاهداً صامتاً على جُرْمِ مؤامرةٍ عصفَت بلبنان سبع عشرة سنةً ظالـمةً بلا رحمة.
ويروي الكتاب بنبرةٍ نوستالجيةٍ قصةَ “مبنى بركات” الأَصفر الذي – عند بنائه قبل90 سنة (1924)- كان تحفةً معماريةً في بيروت والمنطقة، على ناصية الشارع 2 من منطقة 62 – محطة الناصرة، عند منتصف المسافة بين ساحة البرج ومتحف بيروت الوطني على تقاطع السوديكو وشارع الاستقلال، كما مُراقبَ السنوات في تاريخ لبنان بدءاً من الرُّبع الثاني للقرن العشرين، أَيام كانت طريق الشام، منذ إِنجازها قبل 150 سنة (1863)، شريانَ المدينة الواصلَ بيروت بالمناطق جميعاً وصولاً إِلى حدوده الشرقية.
يُعَرّف الكتاب بمهندس “المبنى الأَصفر”: يوسف أَفندي أَفيتموس ابن دير القمر، طالب الكليّة السورية الإنجيلية (الجامعة الأَميركية لاحقاً)، وزير الأَشغال العامة على عهد الرئيس شارل دباس، ومهندس أَبنية عدّة في بيروت، بينها مبنى بلدية بيروت (1927)، مبنى التياترو الكبير (1929)، ومبنى قصر الصنوبر (1931)، ما جعل بيروت في صدارة مُدُن الشرق عمارةً حديثة.
ولا ينغلق الكتاب، بصُوَرِهِ الكثيرة ذاتِ الدلالة، إِلاّ بعد إِطلالة على طبيب الأَسنان نجيب الشمالي الذي سكن المبنى منذ 1943 وترك في عيادته بقايا مبعثرةً شاهدةً على فترة المبنى الذهبية، صُحُفاً وكُتُباً وصوَراً وبطاقاتٍ شخصيةً من أَصدقائه وبينهم الرؤَساء فؤاد شهاب، صائب سلام وعبدالله اليافي.
مع طيّ هذا الكتاب الضئيل الصفحات الطويل الذاكرة الجليل التذكار، يبقى منه ذِكْرٌ لبيروتَ عاصمةً لا يطالها عاصم، مدينةً لا يَقهرها غاصب، لؤلؤةً لا يُشَوّهها قَدَرٌ مهما بَغى. لكأَنها، كأُسطورة “بــيرويه” التي تُـخَلِّدها، حوريةُ البحر التي مهما أَزبد البحر تَخرجُ من بين أَمواجه عروسَ الشاطئ والساحل والجبل ونجمةَ لبنانَ الشط والسهل والجبل.
شكراً لـ”المؤسسة الوطنية للتراث” على إِصدارها هذا الكتابَ المكثَّف “متحفُ الذاكرة: تحيةً لبيروت المدينة وأَهلها”، بادرةَ وفاءٍ لبيروت، ومنها وفاءً لذاكرة كلّ لبنان.
وتَستاهلُ بيروت، بيروتُنا الغالية، تستاهلُ أَن تتأَرَّخ بمتحفٍ للذّاكرة، هي التي تُسَجِّل في التاريخ ذاكرتَنا النابضةَ أَمس واليوم وكلَّ يومٍ إلى منتهى الأَيام.