هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1110: “حديقة حيواناتٍ مباحةٌ براً وبحراً وجواً”

الحلقة 1110: “حديقةُ حيواناتٍ مُباحةٌ بَرّاً وبَحراً وجَــوّاً”
(الأَربعاء 31 تموز 2013)

بعد غارة الطائرات الإِسرائيلية العدُوَّة على مطار بيروت في آخر كانون الأَول 1968، صدَر ملحقُ “النهار” في عدد الأَحد 5 كانون الثاني 1969 بمقالٍ صارخٍ صاخبٍ لأُنسي الحاج عنوانُه “حديقةُ حيواناتٍ مُباحةٌ بَـرّاً وبَـحراً وجَــوّاً”.
لم تحتمل الدولةُ ذاك المقال فأَوْقَفَت أُنسي الحاج وَسَجَنَــتْه عقاباً له على قول الحقيقة، وكتَب غسان تويني افتتاحيَّتَه أَنّ الدولة مِن الضّعف أَن لم تَحتمِل صراحةَ مقالٍ جَريء، وخافت مِـمَّن يرى أَننا نعيش في حديقةِ حيواناتٍ من كلّ نَوعٍ مباحةٍ بَــرّاً وبَـحراً وجَــوّاً.
لكأَنما هكذا دولتُنا من زمان: تَخاف الجُرأَةَ والصراحةَ والحقيقة، وتُحِبُّ من يُداهِنُها ويُمالِقُها ويَمدحُها ويَتَزَلَّف إِليها.
وظلّت هكذا نَعامةً غارزةً رأْسَها في الرمل حتى امتلأَ الرمل زواحفَ ووطاويطَ ورؤُوسَ بواريدَ ومُنْقَضِّين على حدودِها وأَرضها وبيوتها وشعبِها وهي تُرَدِّد في بطن الرمل أَنّ الأَمرَ حوادثُ وتَمضي وعابرونَ ويَمضون.
ظلَّت هذه الدولةُ النعامةُ تُساير وتُغامر وتُقامر بالقَدَر والمصير حتى استهانَ الجميعُ بِقُوّتها فباتوا هُم القوة وباتت هي الضّعف، وحين رفَعَت رأْسَها من بطْن الرمل فوجِئَتْ بالأَهوال حولَها وفي وسَطها وفي مراكز قرارها وهي مذهولةٌ أَن تكونَ أَرضُها أَمسَت مَسرحاً تَسودُ عليه شريعةُ الغاب، شريعةُ الأَقوى، شريعةُ الغالب بِقُوّة سلاحِه أَو قُوّة علاقاته الخارجية أَو قُوّة انتماءاتٍ تعطيه صوتَه العالي ورأْيَه العالي وسَطْوَته العالية، والدولةُ ذاهلةٌ ساهمةٌ ولا تملك غير: “لا حَوْل ولا…”.
ولأَنها غابة مستباحة للحيوانات من كُلّ نوع، ظهرَت سمكةٌ ضخمةٌ خطيرةٌ على شَطّ صور من فصيلة حُوت القرش المفترس، وظهرَ تمساحٌ خطيرٌ في نهر بيروت، وظهرَ تمساحٌ أَسْوَد كبير في أَحد أَنهار البقاع، وسمعْنا أَخيراً في أَكثرَ من موقعٍ وموضعٍ عن ظهور ضَبع هنا، وذئبٍ بَرّي هناك، وثُعبانٍ ضخْم هنالك، وأَنواعٍ كثيرة من الحيوانات البَرِّيَّة المتوحّشة والزواحف والقوارض والحشرات السامّة بين البيوت والحقول والبساتين حتى بات لبنانُ وُجهةً مميَّزةً لـهُواة المغامرات والمخاطر واكتشاف الأَدغال المجهولة.
ولَدٌ يشاهد التلـﭭـزيون سأَل أَباه: “مَن يَحمينا من هذه الحيوانات الـمُخيفة”؟
صبيَّةٌ تَقرأُ الجريدة سأَلت أُمَّها: “كيف أَخبرونا أَنّ لبنان بلدُ الحيوانات الأَليفة”؟
مغتربٌ يُمضي أَياماً من الصيف في لبنان سأَل صديقه: “أَلا تَزال عندكُم وزارةٌ للبيئة”؟
خَبيرٌ يَشرح لزُوّاره على شُرفة بيته الصيفية: “الحيواناتُ البَرِّيَّةُ تَقتربُ من الأَماكن الـمَهجورة التي لا تُشَكِّل خطراً عليها”.
ماذا؟؟؟ أَماكن مهجورة؟؟؟ أَإِلى هذا الحَدّ صارت أَرضُنا “أَماكنَ مهجورة”؟
أَإِلى هذا الحَدّ باتت الحيواناتُ البرية المتوحشة المفترسة تطمئنُّ إِلى أَنْ ليس على أَرضنا مَن يَقضي عليها؟
أَإِلى هذا الحَدّ صارت أَرضُنا غابةً مهجورةً تستبيحُها حيواناتٌ مُفترسةٌ تُمارس شريعةَ الغاب: شريعةَ “العدل للقوّة لا للقانون”؟
في القرن السابع عشر أَخذ الشاعر الفرنسي جان دولافونتين يَكتب خرافاتٍ وأَساطير من عالم الحيوانات، ويرضى بها أَولياءُ الدولة ظَنّاً منهم أَنه يتكلّم على الحيوانات ولا يَعني جنس البشَر.
غير أَنه، كثيراً كثيراً، كان يعني حيواناتٍ من جنسٍ آخر.
ذلك أَنّ جنسَ الحيوانات مُتعدِّدُ الأَنواع، وقد لا يكون فقط يعني… الحيوانات.