هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1081: هُويّة اللامكان

الحلقة 1081: هـُوِيَّة اللامكان
الأربعاء 9 كانون الثاني 2013

أَبْعدُ من أَن نتقبَّل أَو نرفضَ الـمبدأَ بإِقدام الممثل الفرنسي جيرار دوﭘـارديو على طلب الجنسية الروسية وحصولِه على جواز السفر الروسي، هرباً من دفع ضرائبه ورفضاً قرارَ الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاَّند برفع ضرائب الدخل على الأثرياء إلى نسبة 75%.
وأَبْعدُ من أَن نوافق أَو نناهض دوﭘـارديو على تغنِّيه بـ”الديمقراطية الروسية” التي لجأ إليها فيما يهرب منها الرُّوس إلى الديمقراطية الأَميركية أَو الأُوروﭘـية هرَباً من ديكتاتوريةٍ مقنَّعةٍ أَو شبه مقنَّعة يرونها أَقسى من تلك الكانت أَيام الاتحاد السوفياتي.
أَبعدُ من هذين الأَمرَين، وهما لا يعنياننا مباشرةً، يعنينا أَن ننحو بالظاهرة إلى جوهرٍ لعله الأَكثرُ إِلحاحاً والأَبلغُ مدلولاً، يتعلَّق بالإِنسان الـمُواطن قبل الـمُواطن الإنسان. إِنه عنصرُ الهـُوِيَّة.
وما الهـُوِيَّة؟ هي حتماً ليست جوازَ سفرٍ يحمل ختم الأَمن العام. وهي حتماً ليست بطاقةَ هـُوِيَّةٍ تحمل صورةً ورقماً متسلسلاً. وهي حتماً ليست إِخراج قيدٍ يُثبت أَنّ حاملَه “لبنانـيٌّ منذ أَكثر من عشر سنوات”. وهي حتماً ليست شعاراً تاريخياً أَو حضارياً أَو إِتنياً أَو جغرافياً أَو ديموغرافياً أَو سوسيولوجياً نتغنّى بها في الأَغاني والقصائد والخُطَب الحماسيَّة عند الحديث عن “جنَّات عَ مَــــدّْ النَّظَر”.
الهـُوِيَّة هي أَوَّلاً كرامة. كرامةُ عيش. والكرامةُ هي أَوَّلاً أَمنٌ وأَمان: الأَمنُ هو أَوَّلاً دَولة، والأَمانُ هو أَوَّلاً وطَن. والوطن هو أَوَّلاً حمايةُ أَبنائه الحاملين جنسيَّتَه وهُوِيَّتَه وبُنوَّتَه، حتى إِذا انفقَدت هذه الحمايةُ باتت الجنسيَّةُ فارغةَ الـمَضمون، والهـُوِيَّة فارغةَ الدَّوْر، والبنوَّةُ فاقدةَ الأُبُوَّة. وأَيُّ يُـــتْـــمٍ أَقسى من يُـــتْـــمِ الوطن وفقدانِ الكرامةِ في الوطن؟؟؟
التَّمَسُّكُ بالهـُوِيَّة هو التَّمَسُّكُ بالكرامة على أَرض الوطن. من هنا رفْضُ الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948 مبدأَ التوطين في حيثما تشرَّدوا، ومن هنا انتظارُهُم الـمُضْني الطويلُ متمسّكين عناداً قوياً بالهـُوِيَّة الفلسطينية ولو ليس في أَيديهم جوازُها للسفر. ذلك أَنّ الهـُوِيَّة الفلسطينيةَ ليست جوازَ سفرٍ فلسطينياً للعُبُور بين الدول بل هي جوازُ الأَمن والأَمان بكَرامةٍ على أَرض الوطن.
وفي الـمُقابل: أَفواجُ لبنانيين بالآلاف، هاجَروا كأَسراب السنونو الجريحة منذ 1975، وما زالوا يُهاجرون، واقفين صفوفاً ذليلةً على أَبواب السفارات، منتشرين أَعداداً غفيرةً في أَصقاع الأرض، كثيرون منهم يَـحْملون جوازَ سفَرٍ جديداً منحتْهُم إِياه الهـُوِيَّة الجديدةُ التي اعتنقوها في حيثما حلُّوا، لا تَنَكُّراً لِـهُوِيَّتِهم اللبنانية بل اعتناقاً هُوِيَّةً جوهَرُها، قبلَ جوازها للسفر، جوازُ أَمنٍ وأَمانٍ بكرامةٍ على الأَرض التي استوطَنُوها وتَـحفظُ لَـهم كرامةَ الإِنسان الـمُواطن قبل الـمُواطن الإِنسان.
فمن يلوم مواطناً لبنانياً على اعتناقه هوية أخرى تقدم له الكرامة والأمن والأمان؟
من يلومُ لائذاً بالطُّمأْنينة على أُسرته ومستقبل أَولاده، ولو هو لا يزال يَـحملُ بطاقةَ هـُوِيَّةٍ لبنانيةٍ وجوازَ سفرٍ لبنانياً يَعودُ به إلى أَرض الوطن ذاتَ صيفٍ أَو ذاتَ عيدٍ أَو ذاتَ عطلة، ثم يَعود إلى وطَن هُوِيَّتِهِ الأُخرى مُــتَــفَــيِّـــئاً سماءَ كرامةٍ وأَمنٍ وأَمان.
الذين من السياسيين عندنا يتشدَّقُون بالهـُوِيَّة تَــغَــنِّياً رومنطيقياً عاطفياً لفظياً تنظيرياً، ماذا يفعلون لأَبناء لبنان كي لا يَهجُروا لبنان إلى هُوِيَّات أُخرى؟
سنة 1998 أَصدر أَمين معلوف كتابه “الـهُوِيّات القاتلة” عن رجلٍ وُلِدَ في أَلـمانيا من أَبوَين تُركيَّين: لا الـمُجتمع الأَلْـمانـيُّ تبنَّاه أَلْـمانياً، ولا الـمُجتمع التركي اعترف به تركياً، فبقي حاملاً هـُوِيَّةَ اللامكان.
وأَوجعُ ما في الـهُوِيَّة الـموروثة: شعورُ حامِلِها أَنَّ وطنَها الأَوّل لا يُؤَمِّنُ له الأَمان، وأَنه بانتقاله إلى وطنٍ آخَر، قد يظلُّ يَشعر أَنه ينتمي إلى اللامكان.