هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1047: “أصغر منك بيوم…”

الحلقة 1047: “أصغر منك بيوم…”
الأربعاء 9 أيار 2012

زوّارُ المعرض يتجوَّلون جماعاتٍ وفُرادى في القاعة الكبرى من “متحف متروﭘـوليتان للفنون” في نيويورك، يتأَمَّلون الأعمال ويقرأُون في خرائط أَمامهم تَشرح الأعمال ومواقعَها وأصحابها.
يدخل مع أمِّه فتىً في الثالثة عشْرة، حاملاً في يده خارطةً يقرأُها في رويّة. يسير حَـدَّ أمّه المأْخوذةِ بالأعمال. فجأةً يتوقَّف ويقول وحدَه: “غلطةٌ في الخارطة. منطقةٌ ناقصة من الأَمبراطورية البيزنطية”. حاولَتْ أُمُّه تَـجاوُزَ الأمر. أَصرَّ الفتى تلميذُ الصف السادس التكميليّ على أنّ الخارطة ناقصة. أَخذَتْه أُمه، بناءً على طلبه، إلى مكتب الاستعلامات. لم يَدَعْها تسأل. سَبَقَها مُـخاطباً موظَّفة الاستقبال: “الخارطةُ ناقصة ويجب إِعلامُ مدير المتحف”. قَلَبَت الموظفة شفتَيها بِبُرودةٍ وهزَّت رأْسَها من رعونة هذا الفتى وتَنَطُّحِه بادِّعاء تصحيحِ خارطةٍ لبيزنطيا القرن السادس عَمِلَ عليها خبراءُ ومؤَرِّخون وجغرافيون لتكون دليلَ زوّار أحد أكبر المتاحف في العالم، فكيف تكون فيها غلطةٌ من هذا النوع؟
حاولَت أمُّه سحبَه من مكتب الاستعلامات فأَصرَّ على مَلْءِ قسيمة الزوَّار التي يسَجِّلون عليها ملاحظاتهم وانطباعاتهم بعد زيارة المتحف. كتبَ الفتى: “خارطتُكم عن الأَمبراطورية البيزنطية ليست كاملة. تَنقُصُ منها إســﭙـانيا وأَجزاء من أفريقيا وهي منطقةٌ كانت ضمن الأَمبراطورية البيزنطية أيامَ حُكْم يوستينيانوس ولم يَرِدْ ذِكْرُها في خارطتكم”. وَوَقَّع الفتى اسمه بكلّ ثقة: “بنجامان كُوَادِي”، ودوَّنَ عنوانَه في مدينة هارتفورد، عاصمة ولاية كونيتيكت.
خرج الفتى من المتحف مع أُمه التي مرَّ في بالها أَنّ مدير المتحف سَيَقرأُ القسيمة ويبتَسِم ويرميها حَدَّه في سلّة المهمَلات. غير أنها، بعد خمسة أسابيع، وجَدَت في صندوق بريدها رسالةً موجّهةً إلى ابنها الذي فَتَحَها وفَتَحَ عينيه وفَتَح صوتَه وهو يقرأُها لأُمّه مُزقزِقاً: “السيد بنجامان كُوادي: معَكَ حق. وجَدْنا، كما أَشرتَ لنا، أَن منطقةَ إســﭙـانيا وبعضِ أفريقيا، وهي فعلاً ضمن أراضي الأمبراطورية البيزنطية، سقطَت من الخارطة بطبعتها الجديدة سنة 2008. أُهنِّئكَ، وأَرغبُ في مقابلتكَ حين يُتيح وقتُك”. التوقيع: مديرة المتحف هِلِن إيـﭭَـنس.
أَول من أمس، الاثنين من هذا الأُسبوع، انتشَر خبرٌ في وكالات الإعلام والصحف عن فتىً في الثالثة عشْرة اكتشفَ نقصاً في خارطةٍ تَـمُرُّ يومياً بين أَيدي زوّارِ متحف متروﭘـوليتان في نيويورك، بينهم أَساتذةُ تاريخ وجغرافيا وباحثون ومؤرِّخون ومثقَّفون، ولم يلْحَظْ أَحدٌ أَنّ جُزءاً كبيراً من أَجزاء الأمبراطورية البيزنطية ظلّ في الخارطة خارجَ حدود الأمبراطورية.
بين تصاريحَ عدّةٍ صدرَت، تصريحُ مُدَرِّس التاريخ في صف بنجامان، لَفَتَ أَنّ الفتى اكتشَفَ النقصَ في الخارطة حتى قبل أن يصِلَ الدرسُ في كتاب التاريخ إلى فصل الأمبراطورية البيزنطية.
هوذا فتىً دفَعَه فُضُولُه العلْميّ واطِّلاعه الثقافي وجرأَتُه الوُثقى إلى التَّمسُّك بقناعاته وأعطى المسؤولين الكبارَ درساً عن الثقَة بالذات حين تأتي من المعرفة الأكيدة.
هذا لنقولَ أَنْ ليس للمعرفة سِنُّ تقاعُد، ولا سنُّ مباشرةِ التلقّي.
وَلْيَسْقُطْ مَثَلُ “أكبرُ منكَ بيَوم أَفهمُ منكَ بِسَنَة”، فهوذا ابن ثلاثَ عشْرة سنةً جعلَ مَنْ هُم أَكبرُ منه بسنواتٍ ينحنون لِـمعرفته ويُتْلِفون خارطةً أصدروا منها مئات آلاف النسخ، ليَعودوا فيطبعوا خارطةً مصحَّحةً وفق ما لَفَتَهُم إليه فتىً أفهمُ منهم مع أنه… أَصغرُ منهم بسنوات.