هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

747: خاصرَ وطنه ودخل

خَاصَرَ وَطَنَه وَدَخَل
السبت 16 حزيران 2012
-747-

كان يمكن أن يَدخل وحدَه عرش الأكاديميا الفرنسية.
سوى أنه أبى. خَاصَرَ وَطَنَه وَدَخَل: على أَزرار وِشاحه الأكاديميّ الأخضر محفورةٌ أغصانُ أرزٍ عوَضَ العادة أن تكونَ أغصانَ زيتون، على مقلَب سيفه مِداليّتان متوازيتان مَـحفورةٌ على إحداها أرزةٌ رمزُ لبنان وعلى الأُخرى ماريان رمزُ فرنسا، حَدَّهُـما مَـحفورٌ رسمُ زوس ثوراً يَـخطف الأميرة الفينيقية أُورُپّ عن شط صور، وعلى المقلب الآخر من السيف أسماءُ زوجته وأولاده الثلاثة، وثلاثُ كلماتٍ: “ربّي سأَلْتُكَ باسْمهِنَّ”، هي صدْرُ أوّل بيتٍ من قصيدة والده الشاعر رشدي معلوف “نشيد الأمهات” ومطلعُها:
“ربي… سَأَلْتُكَ باسْمِهِنَّ أن تَفرُشَ الدنيا لَهُنَّ
بالورد إن سمحَتْ يداك وبــــالبنفسج بعدَهُنَّ”.
وهو جاهَر بالرموزيات قبل دخوله العرش: “أرى في هذه الرموز على السيف رمز العلاقات العريقة القوية بين الغرب والمشرق”.
ولم يكفّ سعياً إلى تلك القربى في رواياته منذ الأُولى “الصليبيون في عين عَرَبية” (1983)، “صخرة طانيوس” (1993- جائزة غونكور)، “الهويات القاتلة” (1998)، “جُذور” (2004) وسواها، بحثاً دائباً عن التقارُب بين الحضارات والسُبُل إليه في العلاقات السياسية والدينية بين الشرق والغرب، ما ظهَرَ في كتاباته المتتالية عن مواضيع النفي والهوية “أَشْعُر بي مسيحياً في العالم العربي، وعربياً في الغرب”، راح ينسج بها رواياته تاريخيةً في سياقها، إنسانيةً في رسالتها، كونيةً في النظرة إلى علاقة الإنسان بالإنسان.
يَـحلُم أمين معلوف. ويَـحلُم أن يحقّق ما به يَـحلم له ولوطنه لبنان.
سنة 1986 كان مدعوّاً مع سواه إلى قاعة الأكاديميا الفرنسية لِـحضور جلسةٍ عامّة برئاسة كلود ليـﭭـي شتراوس. ولعلّه نهارئذٍ رأى على شرفة حُلْمِه طيفَه جالساً في مقعدِ “خالدٍ” من تلك المقاعد. وعندما دخَل من تلك الشرفة إلى واقعه، ظلّ يحلُم بِـمقعدٍ خالدٍ بين الخالدين حتى تحقق له، بعد ربع قرن، أن يحتلّ المقعد نفسه (29) خلفاً لرئيس تلك الجلسة نفسه: كلود ليـﭭـي شتراوس.
في خطابه، الخميس الماضي، لم يكتفِ بذكْر سَلَفه بل استَحْضَر وطنَه مُذَكِّراً بأن مقعده (29) كان سنة 1870 لـــــ”لبنانـِيٍّ في قلبه تَـمنّى أن يموت في لبنان ويُدفَنَ حَدّ شقيقته هنرييت في بيبلوس حيث عاش معها سنواته اللبنانية: إرنست رينان”.
بلى: كان يُـمكن أمين معلوف أن يدخل وحده عرش الأكاديميا الفرنسية.
سوى أنه أبى: خَاصَرَ وطنَه وَدَخَلَ، كي لا يكون “خالداً” بِذَاته وحسْب، بل ليكون خالداً بلبنانه الذي إرْثُه الخالدُ في التاريخ ناصعٌ على الجبين الأعلى من شمس التاريخ.