هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

حرف من كتاب- الحلقة 51
“من شبّاكٍ لبنانيّ- رسائل من لبنان”- الكاتبة السْكوتلندية إِليزَابِيتْ ثُورْنِكْروفْتْ سْمِثْ
الأحد 29 كانون الثاني 2012

سيّدةٌ أَجنبيةٌ شقراء، يداها خلْف ظَهْرها، تعتمر قبّعةً صيفية، واقفةٌ على شرفةٍ تحت قنطرة تاريخية، تنظر في البعيد إلى بيوتِ ضيعةٍ لبنانيةٍ في الجبل مُتَطَرْبِشَةٍ بالقرميد الأحمر الجميل.
هذا ليس مشهداً حياً ولا لوحةً فنيةً بل غلافُ كتاب “من شُبَّاكٍ لبنانِيّ: رسائلُ من لبنان” (Through a Lebanese Window – Letters from Lebanon) للكاتبة السْكوتلندية إِليزَابِيتْ ثُورْنِكْروفْتْ سْمِثْ (Elizabeth Thorneycroft-Smith) صَدَر في الإنكليزية قبل أيامٍ قليلةٍ في بيروت عن “منشورات ضرغام” في 152 صفحةً قَطْعاً وسطاً، حاملاً نصوصَ رسائل حُبٍّ إلى لبنان، وصُوَراً من لبنان التقطَتْها المؤلِّفةُ خلال جولاتها في المناطق اللبنانية.
إهداءُ الكتاب: “إلى كُلّ امرأَةٍ، ماضياً وحاضراً، اختارَت أن تعيش وحدَها في بَلَدٍ أَجنبيّ”.
وهو هذا مِحْوَرُ الكتاب: جاءت المؤلّفة إلى لبنان مديرةً فنيةً عند تأسيس مهرجان “البستان” سنة 1993 فَتَوَلَّهَت في حُبّ لبنان، وحين انتهت مهمّتُها الفنية سنة 1997، اختارت جبيل بيتاً لها في قلب بستان موز، تعيش فيه اليوم جارةً للشَّطّ الأقْدَم في العالم، تُطِلُّ من شرفتها كلّ مساءٍ على غروب الشمس عن بحر جبيل، وتستقبل الشمس كلَّ صباحٍ مع جيران جبيليين صاروا أهلاً لها ونكْهَةَ وطن.
لم يكن في نيّة الكاتبة أن تُصْدِرَ رسائلها في كتاب. فهي كَتَبَتْها صفحاتِ مذكّراتٍ في دفتر خاص، تَقرأُ منه بعضَها لأصدقائها الأقربين، حتى إذا فازت مقطوعتُها “مِشْيَتي الصباحية في بيبلوس” بالجائزة الثانية بين مئات النصوص في مسابقة إذاعة الـ”بي.بي.سي”سنة 1995 لأفضل نص في موضوع “مِشْيَتي المفضَّلة”، وجَدَت أنَّ لديها مقوِّماتِ كاتبةٍ يُمكن أن تَجمع نصوصَها في كتاب، وهو ما شجّعها عليه أصدقاؤُها فقدّمت الرسائل إلى الناشر اللبناني الذي أخرجها في كتاب أنيق وجميل.
الرسائل ثلاث مَجموعات: أُولى بين حزيران 1998 وتشرين الثاني 2000 في “شاليه البَحّار” (حيث سكنَتْ أولَ ما جاءت إلى بيبلوس)، الثانية من حزيران 2001 إلى نيسان 2006 في “بيت الشبابيك الزرق”، والمجموعة الأخيرة في “بيت بستان الموز” من تموز 2006 إلى رأْس السنة 2011، مُختتمةً كتابها بِهذه العبارة من رسالتها الأخيرة: “سعيدةٌ أنا في بيتي، أَتَأَمَّلُ قُرص الشمس يتسلَّل أرجوانياً إلى حضن البحر، في غروبٍ ساكنٍ كَخشْعَة الصلاة”.
في هذا البيت اللبنانِيّ التراثيّ العتيق بين أشجار الموز، رمَّمَتْهُ بِحسّها الفني وذوقها المثقَّف، تعيش اليوم هذه السيّدة السكوتلندية، وتزاول حُبَّها لبنانَ وشعبَ لبنانَ وطبيعةَ لبنان، مع أنها عانت وعاينت فيه خضّاتِهِ الأمنيةَ الصعبة، من الحواجز الليلية أيام الوجود السوريّ، إلى اغتيالات السياسيين والمفكّرين اللبنانيين، إلى حرب تموز وتهديم الجسور (كان أَحَدُها قريباً من بيتها)، روَتْها كلَّها في رسائلها، وكشَفَت أنّ سفارة بريطانيا اتصلَت بها يومَ ترحيل البريطانيين في حرب تموز، فكان جوابُها حازماً: “لَن أرحل. أُريد أَن أَبقى في لبنان”.
لا عجبَ إذاً أن تختُمَ مقدِّمة كتابِها بِهذه العبارة: “هذه الرسائلُ قصةُ حُبٍّ لوطنٍ تَبَنَّيتُه وطني. وهذا الكتابُ ليس دليلاً سياحياً، ولا رفيقَ سفر، وليس عن بيروتَ النافذةِ الكوزموبوليتية العربية على العالم الغربي، بل هو قصَّةُ حياتي في بيبلوس بين سُكّانها وآثارها وعَراقتها وتاريخيَّتها وجمالِها، وسُكونِ بيتِيَ الهادئ الهانئ في قلب بستان الموز”.
لا أجملَ منه بَوَاحاً يأتي من كاتبةٍ ترَكَتْ أَمانَ وطنِها السَعيد، لتأتي وتسكنَ في وطنٍ يَبحثُ كلّ يومٍ عن سَعادة الأَمان.