هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

حرف من كتاب- الحلقة 34
“الجبَل المُلْهَم”- شارل قُرم
الأحد 2 تشرين الأول 2011

       بين الروائع الخالدة في أدبنا اللبناني كتابُ “الجبَل الْمُلْهَم” للشاعر اللبناني الفرنكوفوني شارل قُرم، صدَر سنة 1934 وصدرَت طبعةٌ ثانيةٌ له سنة 1964، فطبعةٌ ثالثة سنة 1987. ثم صدر جُزءاً عاشراً في المؤلّفات الكاملة التي أَصدرتْها للشاعر منشوراتُ “المجلة الفينيقية” على اسم المجلة التي كان الشاعر أَنشأَها سنة 1919.
“الجبل الْمُلْهَم”، في 160 صفحة قطعاً وسطاً، هو من ثلاثة أناشيد: “قولُ الحماسة”، “قولُ الاحتضار”، “قولُ الذكرى”، عن ثلاثِ مراحلَ من تاريخ لبنان. ومع أنّ لبنان فترتَئِذٍ كان تحت الانتداب الفرنسي، دعا الشاعر في كتابه جميعَ مواطنيه، من كلّ مذهبٍ ودينٍ وطبقةٍ، إلى وعي تاريخ لبنان وعظمته الخالدة، في رسالةٍ شاءَها الشاعر إلى مواطنيه إنسانيةً شاملةً، تُبرز للشعب اللبناني جذوراً لا تشير إلى هويته فقط، بل ترفده بِمناعة العيش معاً، والبقاءِ في أرضه الدهرية الخالدة.
نال الكتاب لدى صدوره “جائزة إدغار آلِن پو” الشعريةَ الشهيرة. وكتب عنه الناقد الفرنسي الكبير روبير هونّير: “أَخَذَني فيه أُسلوبُه الصافي، وشِعرٌ كلاسيكي قويٌّ يُجسِّد آثاراً لبنانيةً تغتني بها اللغة الفرنسية” (مقاله في 28 تموز 1934).
ومع أنّ شاعريّة شارل قرم عاليةٌ تصعُبُ معها ترجمةُ شِعرِه وإيصالُه إلى عمقِه وعُلُوِّه معاً، تَمَكَّن الشاعر سعيد عقل، بشاعريّته الفَذَّة، من وضع ترجمةٍ عربيةٍ شعريةٍ كلاسيكيةٍ لهذه الرائعة الشعرية الكلاسيكية بالفرنسية، ضاهى فيها شاعريةَ القرم وبَـزَّها أحياناً في نقْل الروح اللبنانية العظيمة.
من قصيدة “الأرز”، كَتَبَ شارل قرم وتَرجَم سعيد عقل ما أقتطفُ منه الآتي:
أيها الأرزُ، غـابةَ الرب، أَيُّ العبقريّين لا يَهي في نشيدِكْ؟
أنتَ، يا شاهــدَ الممالكِ والآزالِ تَنهارُ في ظِلال خُلودكْ
أَرزَ لبنان، أرزَ بَحـــراننا الحلوَ، وأَرزَ الذُّهولِ والخُيَلاءِ
قَبَسٌ منكَ، فوق راحة لونْجين، ارتَمى تَدمُراً على الصحراءِ
يا عَطوفاً بالظِّلّ من معطفٍ أخضرَ، والفوحِ من طيوبٍ زَكيَّه
بغَنُـــوج الحرير والدُّرِّ يَحمي حَقَّنا بــالحياة والحُرِّيَّه
قانعٌ أنتَ بِـتَلٍّ قَبلُ جَلَّلْــتَ سُفوحَه
قانعٌ بالجذعِ يَسقيكَ، ولو تدري طُموحَه،
دَمَ لبنانَ… وروحَه
يا رعـاكَ الشملُ فوق التلّ وَردياً أَجَدْ
مـلأَتْ أَغصانُكَ الخضراءُ آفاقَ الجلَدْ
عانقَتْ وجهَ الأَبَدْ
هوذا واحدةٌ منكَ اكتسَت ثوبَ الجُدودْ
جِذعُها ضُمَّةُ عَشْرٍ من جَميلات القُدودْ
عُمْرُها بَعضُ الخلود.
ومن قصيدة “بعلبك” في الكتاب، كتَب شارل قرم وترجَم سعيد عقل، ما أقتطف منه الآتي:
ويا بعلبكُّ، حِمى أَمانيِّ تلك العُهودْ
حناناً على العرس يعقُدْنَهُ فيكِ منذ الوجودْ
فكم خُضرةٍ صُوِّحَت هشيماً على أَرجُلِكْ
وأنتِ اليتيمةُ تَحـوين دنيا على أَنْمُلِكْ
وَلَدْتِ الرِّجالَ الأُلى تَهادَوا بِزَنْدٍ أَغَرْ
وبالنَّخل من قــامةٍ يَصُدُّون وجهَ القَدرْ
أَراهُنّ في رقصةٍ سَكارى بقَلْبِ الفَضاءْ
يفجِّرْنَ وجهَ الكواكبِ حِسّاً ووجهَ السَّماءْ
فترقُصُ آفاقُــنا على لَـوعـةٍ واشتياقْ
تغَنّي غَرامَ الصبيحةِ والغـيمِ غِبَّ العناقْ
نُجومٌ تَدورُ، وتَرقُصُ من حول تيجانِكِ النافراتِ الجَلالْ
وليلٌ غَفا… في حنايا التلالْ
وَظِلٌّ كَمِيٌّ تعرّى وعلَّقَ، فوق نقوشِـك، ثوبَ القتالْ.

بلى: مع شاعريّة سعيد عقل في الترجمة الشعرية عن شاعريّة شارل قرم النادرة في رائعته “الجبَل الْمُلْهَم”، نَحنُ في لبنان الخالدِ العالَميّ أَبناءُ وطنٍ لا أَيَّما وطن، تضرِبُهُ العواصفُ فَيَقوى، ويَنْشُبُ دائماً على جَبهة التاريخ وطناً غير عادي، طالعاً من جُذورٍ غيرِ عاديَّة، باقيةٍ في شَرايينِهِ نُسْغَ حياةٍ لا تَنطفئُ ولو انطَفَأَتْ على قَدَمَيها جَميعُ المنائِر.