هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1014: كتابٌ في مدارس لبنان يُغيِّبُ لبنان

1014: كتابٌ في مدارس لبنان يُغَيِّبُ لبنان
الأربعاء 21 أيلول 2011

أثارني أمس الأول، الإثنين، مقالٌ لافتٌ على الصفحة الخامسة من جريدتنا الفرنسية الكبرى “لوريان لوجور”، عنوانه: “في كتابٍ مدرسيّ: لا ذِكْرَ لِدَور الفينيقيين في أَصل الأبجدية”، وهو مَقالٌ علميٌّ موثَّق كَشَفَ أنّ في كتابٍ مدرسيٍّ للصف السادس وَفق المنهج الفرنسي الجديد اعتمَدَتْه مدارسُ لبنانيةٌ، قسماً كاملاً عن الأبجدية، فيه فصولٌ عدةٌ، منها: “أَسرارُ الأبجدية”، و”أَصلُ الأبجدية”، و”تاريخُ الكتابة وقواعدُها”، و”البِيْبْلْ ونصوصٌ تأسيسيةٌ أخرى”، وليس في هذه الفصول جميعاً أيُّ ذِكْرٍ لِلُبنان أو لفينيقيا أو للمدُن الفينيقية التي كانت في التاريخ القديم سطوعَ الحضارة في العالم.
وتزيدُ من هذا الغيابِ خارطةٌ على صفحةٍ كاملةٍ من الكتاب تُظهر شِمالاً آسيا الصغرى، جنوباً البحر الأحمر، شرقاً نينَوَى وبابل وبلاد ما بين النهرين دجلة والفرات، وغرباً قبرص والبحر المتوسط والقدس والبحر الميت وسيناء. وغابَ عن الخارطة كلياً ذِكْرُ لبنانَ الأرز، ومُدُنِه الخالدةِ صيدا وصور وبيبلوس وكلِّ الشاطئ الفينيقي الذي عنه انطلق الحرف، ومن شطّ بيبلوس أَقلعَ أولُ مركبٍ حَملَ إلى العالم الحرفَ والكتاب، ومن بيبلوس اشتُقَّت لاحقاً كلمات بِيْبْلْ (الكتاب المقدس)، بيبليوغرافيا، بيبليوتيك، وسواها من جذْر “بيبلوس”، ولا تزالُ أبجدية فينيقيا، أُمُّ الأبجديات الناطقة في العالم، مَحفورةً على ناووس أحيرام في متحفنا الوطني.
سأفترض أن مؤلِّفِي هذا الكتاب الفرنسيين جَهَلةٌ لا يعرفون أنّ ولادةَ الأبجدية كانت في لبنان فينيقيا، أو مُغرضون لا يريدون أن يعترفوا. وكلا الافتراضين خطيئةٌ تأليفيةٌ تربويةٌ كبرى.
ولكنّ العتبَ على مسؤولين لبنانيّين تربويّين ومنسِّقين ومديرين ومقرِّرين اعتمدوا هذا الكتاب لتلامذتنا اللبنانيين الذي، في هذه السنّ الطرية من الصف السادس، سيكبرون ولن يُقنِعَهم أحدٌ لاحقاً بحقيقة ولادة الأبجدية في وطنهم، متَحَجِّجين بأن كتابهم لم يذكر ذلك، والكتابُ مرجعٌ نهائي للتلامذة حين يَحفَظون الحقائق أو يَدرُسون المعلومات.
أفهم ألاّ يكونَ مؤلِّفو هذا الكتابِ الفرنسيون قرأُوا كتاب مواطنهم الفرنسي جان بيار تِيُّوليه “أَنا إسمي بيبلوس” الصادر في باريس وفيه، بين ما فيه، هذه العبارة: “نحو السنة 1300 قبل المسيح، لم يكن قلبُ العالم في نيويورك ولا في طوكيو ولا في پكّين ولا في هونغ كونغ، بل كان قلبُ العالم في مدينة اسمها بيبلوس، قريبةٍ من العاصمة اللبنانية الحالية بيروت، سُكّانُها تركوا لنا مَحفورةً على الخشب والمعدن والحجر لغتَهم اليوميةَ التي باتت لاحقاً أُمَّ الأبجديات الناطقة”.
وأفهم ألاّ يكون مؤلّفو هذا الكتابِ الفرنسيون قرأوا كتاب مواطنَيْهم الفرنسيَّين فرنسوا بريكيل شاتونيه وإريك غوبيل (Gubel) : “الفينيقيون مؤسِّسو لبنان” (الصادر لدى منشورات غاليمار في پاريس)، وفيه، بين ما فيه، هذا المقطع: “حمل قدموس معه إلى الغرب أدواتِ الكلام والمنطقِ بِعلاماتٍ حروفيةٍ رسومُها الكتابيةُ توازيها أَصواتٌ نطقية، كان تعلَّمها في بلاده فينيقيا”.
غير أنَّ ما لا أَفهمُه، أَن يعتمد مسؤولو مدارسَ لبنانيةٍ كتاباً كهذا، يُغَيِّبُ حقيقةً رئيسيةً من حقائق الحضارة في لبنان، فيُعطُوه للتدريس في صفوفهم قبل أن يَقرأُوه ويتحقَّقوا مِما فيه، وما فيه خطيئةٌ لا تُغتَفَر، يتلقّاها أبناؤنا في الصف السادس، غافلِين عن دَورِ لبنانِهم الخالد في التاريخ، ولبنانُهُم عنوانٌ مُشِعٌ على الصفحة الأُولى من تاريخ التاريخ.