هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

1012: رحمة التاريخ

الحلقة 1012: رحمة التاريخ
الأربعاء 7 أيلول 2011

أن يكونَ “العدلُ أَساسَ الْمُلْك”، فالخضوعُ لِحُكْم العدل أَساسُ بناءِ الوطن وطمأْنينةِ المواطنين. وكلُّ استخفافٍ بِحُكْمٍ أو مَحكمةٍ أو قضاء، يرتدُّ على الدولة بالتصَدُّع، وعلى الشعب بالخوف من انسحاب سقْف الأمان.
أقسى الأحكام القضائية في التاريخ، من أقصى البراءة إلى أقصى الإعدام، لم تواجَه بهذا المستوى من الاستخفاف في التنظير والتشكيك والاتّهام كما يَحدُث عندنا، بإطاحة مبدإ “أنتَ بريءٌ حتى تُدان” أو “أَنتَ مُتَّهَمٌ حتى تُثْبِتَ براءَتَك”.
ولم يعرف القضاءُ حُكْماً صدَر عن مَحكمةٍ دوليةٍ أو مَحليّة، جُوبِهَ، كما عندنا، برفْضه المسْبَق، واتّهامه بالـ”مُسَيَّس” أو الـ”مُنحاز” أو “القليل” أو “الضعيف”، كأنما المجابِهُون قضاةٌ أو خبراء قانون أو عدالة ليحكموا أنْ كان يجب أن يكون الحُكْم أقسى أو أطول أو أخفّ أو أرحم، أو أنّ المتهم بريءٌ أو مُذنِب، أو أنّ القرار مُحَضَّر مسْبَقاً قبل مثول المتَّهم في قفص الاتهام لتلَقّيه لَفْظَ الحكم عليه، أو أن قرار المحكمة صدر تحت ضغوطٍ سياسيةٍ أو أهليةٍ أو ظرفية.
وفيما تتصدَّر الأخبارَ عندنا هذه الأَيام تردُّداتُ مَحكمةٍ دوليّةٍ أو مَحلّيةٍ، جاءتْنا من فرنسا أخبارُ مُحاكمة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، مُتَّهَماًَ بأنه، حين كان عُمْدةَ پاريس وعلى رأْس حزب “التَّجَمُّع من أجل الجمهورية”، خَصّ أعضاءَ من حزبه بوظائفَ وهْمِيَّةٍ سنة 1991، كان يقتطع رواتبَهم من ميزانية بلدية پاريس، ما أعتبرتْه المحكمة سوء أمانةٍ، وتَصَرُّفاً كيفياً بالمال العامّ في غير موقعِه، واستغلالَ ثقةٍ مَنَحَهُ إياها الناخبون. وهي تُهمةٌ ما انفكّ شيراك سنواتٍ يَرفضُها ويَنفيها. وبسبب وضعه الصحي الحالي وضعف ذاكرته، ما يعرِّضه أمام قوس المحكمة لتشويه كرامتِه كرئيسٍ سابق وإنسانيّتِه كزعيم وطني وعائلتِه بأذىً بالغ، ارتأى خبراءُ مقرّبون أنّ وضعَه يُتيح لأيِّ متقاضٍ أن يَطلب وقْفَ المرافعة عنه. غير أن شيراك أبى، بكلِّ عنفوانٍ أبى، وطلبَ أن تذهب المحكمة في جلساتِها حتى النهاية، فكتبَ إليها طالباً أن يَحضر الجلساتِ مُحاموه للدفاع عنه وإبرازِ الوثائق والوقائع والحقائق، لأنه يرى مُحاكمتَه ذاتَ بُعدٍ رمزيٍّ وسياسيٍّ كبير، ويشعر أنْ إذا توقَّفَت عنه المحاكمة، سيعتبر الفرنسيون أنّ في فرنسا قضاءَين: الأول للنافذين ذوي السلطة، والآخَر للضعفاء الذين لا سلطة وراءهم، وهذا ما يرفضُه شيراك لِمَجْد فرنسا، ويرى أنه، كرجلِ دولةٍ ورئيسٍ سابقٍ، عليه القبول بقرار المحكمة أياً يكن هذا القرار.
هذه فقط للمقارنة: بين ما عندنا، وما عند الدُّوَل المتقدِّمة قضائياً وعدلياً وسياسيّين ورجالَ دولة.
والواضح هنا أنّ جاك شيراك، من أصراره على مُحاكمتِه حتى النهاية، يريد أن يترك لشعبِهِ صورةً مُشْرِقَةً عنه، كسائر الكبار الذين أدخلوا بلدانَهم في صناعة التاريخ، ويريدون ألاّ يَخضعوا إلاّ لِحُكمٍ عادلٍ من رحمة التاريخ.
ويكفينا لو لَم يتعلَّم سياسيُّونا من “أُمِّنا الحَنون” إلاّ هذه الشهامة !