هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

حرف من كتاب- الحلقة 5
رواية “وداعاً بيروت”- مَيّ غصوب
الأحد 13 آذار 2011

في 220 صفحة حجماً وسطاً، صدرَت الطبعةُ العربية لرواية مَيّ غصوب “وداعاً بيروت” مترجَمَةً عن الأصل الإنكليزي (Leaving Beirut) الذي صدَر سنة 2007 قبل أسابيع من غياب ميّ في موتها المفاجئ عن أربعة وخمسين ربيعاً.
تعود بنا الرواية إلى أواخر الستّينات وحادثةِ رمي خادمةٍ طفلَها الرضيع من الطبقة التاسعة، واتّهام الإعلامِ إياها بأنها أُمٌّ مُجْرمة.
لكنّ تلميذةً في الثامنة عشرة كشَفَت يومها أنّ تلك الخادمة لم تكن أُمّاً مُجرمة، وأنّ ذاك الطفل كان سِفاحاً من رَبّ عملِها الذي اغتصَبها، ولم تشأْ حَمْلَ العار طوال حياتها، فكفَّرت عن ذنبها بالتخلُّص من ثَمرة تلك العَلاقة السرية.
تلك التلميذةُ يومها تعاطفَت مع الخادمة ضدّ ربّ عملها المجرم، فكتبَتْ مقالاً أرسلته إلى الصحف اللبنانية، ولكنْ لم تنشُرْهُ أيّةُ صحيفة، حفاظاً على صورة المجتمع الذكورية التي تحمي الرجل وتحاسب المرأة.
الروايةُ سيرةٌ شبهُ ذاتية تتخلّلها أحداثٌ مؤْلِمةٌ من فصول الحرب في لبنان، وما تركتْه من جراحٍ نفسية في نفوس المواطنين.
تبدأُ أحداث الرواية من موضوع إنشاءٍ بالفرنسية كتبتْه تلميذة “الليسيه الفرنسية” في بيروت لِمعلِّمتها مدام نومي عن حادثةٍ وسْطَ غابةٍ مظلمةٍ حاول فيها أصدقاؤُها الخمسة إخافتَها، فصمَّمَت على الانتقام منهم، وختمَت موضوعها بهذه العبارة: “صممتُ أن آخذ بثأري منهم فيلقَوا جزاء فعْلتهم وتتحقّقَ العدالة”.
واستوحَت التلميذةُ هذه الخلاصة من قصيدة فيكتور هوغو “الضمير” التي يَختُمُها بأن الله يغضب على الإنسان حتى بعد موته.
لكنّ المعلمةَ صدمَت تلميذتَها ابنةَ الثانية عشْرة بعلامة غير جيّدة، ووبَّخَتْها في الصف أمام رفيقاتها لأن الأخذ بالثأر شعورٌ غيرُ نبيل.
وتختم مَيّ غصوب روايتها بالتأكيد على عبارة برتولت بريخت: “ضروريٌّ فضْحُ المجرمين الكبار بجعْلهم موضع هزء وسخرية”.
وبين البداية والخاتمة 15 فصلاً من روايةٍ متشابكة الأحداث، متعددةِ الشخصيات والأماكن والبلدان، لكنها مركَّزةٌ على فكرة فضْح المجرم والاقتصاص منه أياً يكن وأنى يكن.
وتمر في رواية مَيّ غصوب مشاهدُ فظَّةٌ من الحرب في لبنان، رسَّخَت قَناعتها بألاّ تغفر للمجرم فعْلته، ولو وَجدَت له تخفيفاً من احتقاره ككائن بشري بالبحث عن الدوافع التي أدت به إلى ارتكاب ما ارتكب، وإلى الندم والاستغفار إن هو وعى فداحة عمله.
ومن تجربتها الْمُرّة في الحرب اللبنانية تثور على سياسة الحكّام التي أوصلَت وطنها إلى الدمار والويلات، وأوصلتْها إلى الهجرة فودّعت بيروت وعاشت في لندن تكتب مسرحاً ومقالات، وتُنتِج منحوتات “مطليَّةً بالذهبي والفضي”، بينما شفتاها “مطليتان باللون الأحمر الصارخ”، كما ورد في روايتها.
وفي ثنايا الرواية تمر مَيّ غصوب على أحداث عالمية في غير مكان من العالم وقعَتْ فيها أحداثٌ مؤلمةٌ تَخَلَّلتْها إجحافات بحق أبرياء، وأدَّت بها إلى السخط عليهم بالانتقام منهم لضحاياهم الأبرياء، وبالوقوف دائماً إلى جانب الضعفاء.
وهكذا تدور رواية “وَداعاً بيروت” بين افتقاد الوطن ومرارة المنفى،
بين الذاتيّة والغيريّة،
بين سيرة ذاتية وسيرة مظلومين وظالمين،
في حبكةٍ روائيّة متشعِّبة، لم تخدمها الترجمة العربية بأمانة،
لكنها بقيَتْ متينةً، تُمسِك طرفيها الأول والأخير تلميذةٌ ومعلمة.
المعلمة هي “مدام نومي”، والتلميذة هي… مَيّ غصوب.