هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

683: مسجد عيسى بن مريم

مسجد عيسى بن مريم
السبت 12 شباط 2011
– 683 –

قبل ثلاثة أيامٍ كان عيد مار مارون. وبعد ثلاثة أيامٍ يَحلُّ عيدُ المولد النبوي الشريف.
وبين القداديس والابتهالات وحلَقات الذِّكْر يطالعُنا تَشَدُّقٌ سياسيٌّ، مُقَنَّعاً مرةً وحاسراً أخرى، يتَسَلّل بِخُبْثه ضالعاً (ولن يُفلح) في زرع الشّقاق بين أبناء العائلة الواحدة، متغنِّياً لفظياً بـ”العيش المشترك” و”التعايش” عوض العمل ميدانياً على “العيش الواحد” في الوطن الواحد الوحيد.
في هذه الأجواء، بين احتفالات “مارون” واحتفالات “المولد”، كنت أتصفّح كتاب “مساجد ومدارس طرابلس الفيحاء”، نشَرَتْه سنة 2003 المديريةُ العامة للأوقاف الإسلامية- دائرة أوقاف طرابلس، من 96 صفحة حجماً كبيراً في العربية والإنكليزية، وضع نصوصَه المؤرّخ الدكتور عمر عبدالسلام تدمري، ووقَّع صوَره وإخراجه الدكتور خالد عمر تدمري، وترجم نصوصَه إلى الإنكليزية الدكتور غازي عمر تدمري.
إلى أهمية هذا الكتاب القيِّم، معلوماتٍ وصُوَراً ووثائقَ عن المدارس والمساجد في مدينتنا الغالية طرابلس، لَفَتَني فيه صفحة 78 “مسجد عيسى بن مريم”، قامت ببنائه لَجنةُ بناء المساجد سنة 1992 في حوش العبيد (منطقة الميناء)، حديثَ الطراز ببُنيانه البهيِّ ومئْذنته البيضاء الطَّلُوع.
وهو دلالةٌ دامغة على أنّ طرابلس،
العاصمة الثانية للبنان والأُولى في عدد الآثار الإسلامية من عهودٍ وحقباتٍ متتالية،
ليست ترتدي الطابع الواحد،
هي التي تَضمُّ معاً كنيسةَ مار مارون وشارع مار مارون ومسجد عيسى بن مريم.
هُنا السيّد المسيح في كنيسته، وهُنا عيسى عليه السلام في المسجد.
ومن هنا يتّضح أنّ المسيحيّ والمسْلم في كلّ لبنان ليسا أَخَوَين بل شقيقَين من أُمِّ واحدة هي أرضُ لبنان، ومن أبٍ واحدٍ هو كيانُ لبنان، فلا يُحاولَنَّ أحدٌ فسخ التوأم عن شقيقه التوأَم.
وفي اتصالي بالمؤرخ الدكتور عمر عبدالسلام تدمري، وحديثي معه عن هذا الطابع الوطني في طرابلس، روى لي عن “مزار سيّدة يونس” في محلة “الرمانة” (وسط طرابلس المملوكية القديمة)، وهو بيت من طبقتين في السفلى منهما كنيسةٌ صغيرة، وفي العليا أيقوناتٌ مسيحية ثمينةٌ نادرة تعود إلى الفترة الصليبية (أي قبل نحو 900 سنة). والمزار حالياً في عهدة دير البلمند.
وروى لي بعد:
كان في طرابلس المملوكية حيُّ “طلعة السمك” على طريق القلعة، فيه عدد من الجوامع، ويتقاسم سُكناه المسلمون والمسيحيون مزاولين شعائرهم الدينية، حتى أواخر القرن التاسع عشر حين تشاور سكانُه أعيان المسلمين والمسيحيين حول مصبنةٍ في حي النصارى تَخلّى المسلمون عنها لأشقائهم المسيحيين الذين حوّلوها إلى كنيسة القديس جاورجيوس، ولا يزال مذبحها حتى اليوم شاهداً على العيش الواحد في طرابلس الواحدة الجامعةِ مسْلميها ومسيحيّيها في حَرَم لبنان الواحد لجميع أبنائه.
هذه هي طرابلس:
صورةٌ مضيئة عن أنّ لبنان ملتقى نموذجيٌّ للطوائف، رغم مُمارساتٍ سياسيةٍ فيه تتقنّع بالطائفية، ومع أنّ نظامه السياسي طائفي و”كوتات” الوزارات فيه والوظائف والمناصب طائفية، غير أن مناعته أن يكون في هذا الشرق نموذج العيش الواحد بين إخْوة الطوائف من أهل البيت الواحد.
وهذا هو لبنان:
أياً تكن صعوبات المرحلة التي يجتازها – وكم اجتاز قبلها في تاريخه من صعوبات أَشدّ شراسة – يبقى وطنَ الانفتاح على الآخرين، وطنَ احترام الآخَر في طقوسه ومعتقداته، وطنَ اقتبال الآخر ومحاورته، لكي يكون الحوار هو اللقاء وهو الأساس في بناء مستقبل آمنٍ وطيدٍ لأجيالنا المقبلة.
الغارقون في التعمية، الذين لم يَفهَمُوا بعد، ولم يَرعَوُوا بعد، ولم يَعوا،
فلْيفهوا ولْيرعووا ولْيعوا أنّ لبنان لا يقوم على فعْلٍ تُقابله ردّة فعْل،
بل يقوم على فعْلٍ واحدٍ هو الإيمانُ بأنه :
وطنٌ غيرُ عاديّ،
ذو رسالةٍ غيرِ عادية تَجعلُهُ فينيقَ الأوطـان مهما رمَّدتْه النار،
ومهما شَدَقَت أفواهَها عليه غيلانُ المؤامرات.