هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

977: فتافيت

الحلقة 977: فتافيت
الأحد 23 كانون الثاني 2011

في السنتَين الأخيرتَين قبل غياب منصور الرحباني، كنتُ كلّما زُرتُه في غرفته،
أَراه مُسَمَّراً أمام شاشة التلڤزيون،
مستغْرِقاً في المتابعة،
مُهتَمّاً بِما يُتابع،
يَتَلَمّظُ شفتَيه تَلَذُّذاً،
مُتَمَتِّعاً بالمشاهدة على بَسمة غبطة،
حتى يكادَ لا يرحِّب بي من كلّيانيّة انصرافه إلى ما أَمامَه على الشاشة،
ويدعوني إلى الجلوس والمتابعة معه وعدم مقاطعته.
كلُّ هذا، لا لأنه يُشَاهد فيلماً مثيراً أو برنامجاً مسلياً،
بل لأنه يتابع قناة “فتافيت” التي لم أَحْضَرْهُ يُشاهدُ سواها في السنتَين الأخيرَتَين من زياراتي إِليه.
ومنصور موهوبٌ في الأكل وتَذَوُّق الطعام وتفضيل أطايبه، بقدْرِما هو موهوبٌ في الإبداع الشعري والموسيقي.
وغالباً ما ذكر لي أن الأكل عنده بأهمية الشِعر والموسيقى، وأنّ مَن يعرفْ أن يتذوَّقَ الطعام يعرفْ كيف يتذَوَّقُ الفنّ.
هذه الْمِتْعةُ في المشاهدة عند منصور الرحباني، ومتابعةِ الموادّ الأولية للطعام تتحوَّل أمامنا من فتافيتَ متفرّقةٍ إلى صحن شهيٍّ موحَّدٍ جاهزٍ لاغترافِه في لذَّة التذَوُّق،
تَذَكَّرْتُها في الأيام الأخيرة،
ولا أزال أعيشُها وسْط كلّ ما نَلحَظُ حولنا على الساحة السياسية من موادَّ أوّليّةٍ متفجِّرة،
كانت أَساساً مائدةً وطنيةً واحدةً على طاولةٍ وطنيةٍ واحدة،
ثم راحت تتشظَّى صحوناً طائرةً في كلّ اتِّجاه،
خارجةً من مطبخِ الوَحدة الوطنية،
ومتفرِّقةً خارجَه إلى كلّ طاولةٍ وكلّ مائدةٍ مع كلّ ضيفٍ وكلّ زائرٍ وكلّ وسيطٍ وكلّ مُحَكِّم،
حتى لينأى المواطنُ اللبناني عن ذاته،
وهو يُتابع هذا الضيف أو ذاك الوسيط أو ذلك الزائر،
لعلَّ لديه وصفةً سحريةً يُنْقِذُ بها الوطنَ الذي كلّما تَخاصم سياسيُّوه أو تنابَذوا، طرَحُوا الصوتَ على الدول،
أو تبرَّع سفراءُ الدول بالهرَع إلينا ناصحين مُهَدّئين متدخِّلين متدَاخِلين،
فيضيعُ المواطن اللبناني بين وسيطٍ واصلٍ، ووسيطٍ مُغادرٍ، ووسيطٍ يصرّح من بعيد، وآخرَ ينظّر من قريب،
وتتصاعد رائحة المطبخ السياسيّ من كلّ صوب، وإلى كلّ صوب،
مُنْذِرةً بتجْزِيءِ الطاولة، وتقسيم مَن حولها، وتفريق مَن إليها،
ويهلع المواطن من “شَوشَطَة” هذه الطبخة التي،
عوضَ أن تنتقلَ من فتافيت إلى صحنٍ واحد،
يراها تنتقل من صحنٍ واحد على مائدةٍ وطنيةٍ واحدةٍ آخذةً بالتَّشَظِّي إلى… فتافيت مائدة.
هكذا آلت الحال بِمعظم سياسيينا اليوم،
فباتوا متفرِّقين على مساحة طاولة الوطن،
عوضَ أن يكونوا إلى مائدةٍ واحدة ويَختلفوا حول الطاولة آراء ومقترحاتٍ،
ثم يَجتمعون على سَماع الرأْي الآخر أو اجتذاب الرأْي الآخر إليهم،
فلا ينهضون عن الطاولة في نِهاية المائدة،
إلاّ وهُم مُجْمِعون على طبخةٍ واحدة، من مطبخٍ واحد،
يديرُهُ طبّاخٌ حكيمٌ واحدٌ يقدّم صحون أطايبه الى المواطن اللبناني،
فيأمَنُ المواطن أنه يأكُل من معجن الوطن خُبزاً من قمح الوطن وعجينِ الوطن
خَبَزَهُ فرَّان الوطن وقدَّمه في صحون الوطن على مائدة الوطن الواحد الموحَّد.
وهكذا:
بَدَلاً من أن يستمْتِع المواطن بمتابعة فتافيت الموادّ الوطنية الأُولى تَتحوَّل من فتافيت إلى صحون مُغَذِّيةٍ مُوَحَّدة،
ها هو يتابع منذ أيام تَجاذُبَ السياسيين، وكيف بسبَبِهم تَتَفَتَّتُ الطاولةُ الواحدةُ إلى طاولاتٍ حَرِدَةٍ في الزوايا المتقابلة،
والمائدةُ الواحدةُ إلى متاريس متواجهة في الصالة الواحدة،
والصحنُ الموحَّدُ المغذِّي الوطنَ إلى شظايا صحونٍ تتَطايَرُ فوق رؤوس المواطنين الذين يَخشَون أن يُمْسُوا في بيتٍ بلا سقفٍ، مهدَّدٍ بأن تَسقُطَ عليه الحجارةُ والوُحُولُ والأمطار.
وبين أن يتابع المواطن طَبْخَةَ الوطن تَنْضجُ إلى المستقبل الأشهى،
باتَ يَخشى أَن يرى وطنَه مفتوحاً على زوّارٍ وَوُسَطَاء ومتدَخِّلين ومتدَاخِلين يَدخُلُون الوطن،
يَجمَعُون ما فيه ومَن فيه،
ويَحملونَهُ فتافيت إلى حيثُ لا يدري أحدٌ أَين وكيف تنتهي الفتافيت.