هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

678: المُهدى المنصوب في الإهداء المرفوع

المُهدى المنصوب في الإهداء المرفوع
السبت 8 كانون الثاني 2011
– 678 –

“إهداءٌ مرفوعٌ إلى حضرة الوجيه الفاضل نعمه تادرس صاحب الأيادي البيضاء على المشاريع الوطنية والأدبية والخيرية”.
وفوق هذه العبارة، على صفحةٍ كاملةٍ ضمن إطارٍ مزركش طباعياً، صورةُ رجل ستّيني متّكئ على منصّة، بانَت منه (على عادة الصوَر في تلك الحقبة) خواتِمُه وسلسلةٌ تتدلّى منها ساعتُه الذهبيّة، وحتماً بقيَ دقائقَ أمام المرآة يُهندسُ شاربَيه قبل أن يَلْمع “فلاش” المصوِّر.
هكذا تبدو الصفحة الثالثة، بعد صفحةٍ أُولى لاسم المؤلف وعنوان الكتاب، في “ديوان إيليا أبي ماضي-الجزء الثاني-نيويورك 1918”.
وعلينا أن نفهم من تلك الديباجة التبجيليّة أنّ “الخواجة نعمه تادرس” هو الذي، بـ”أَياديه البيضاء”، تبَرَّعَ بدفع التكاليف الكاملة لطباعة الديوان.
هذه الظاهرة تأخذُنا إلى عادة الإهداءات التي يَدرُج عليها الأدباء عادةً ولأسبابٍ ودوافعَ متعدّدة.
وهي على نوعَين:
أ – التوقيع فقط، وهو إمضاء أوتوغرافي يطلبُه مُحبُّو فنان أو أديب أو شاعر يوقِّع على ورقةٍ منهم أو ما يتوفّر توقيعه عليه، ما سوى ليُثْبِتوا أنهم الْتَقَوهُ شخصياً، ولا قيمة قانونية لهذا التوقيع،
ب – والإهداء الذي بدَوره على نوعين:
1) الإهـداء “المرفوع” من المؤلِّف إلى مرجع كبير:
تَوَسُّلاً لدعمِه أو تشجيعِه أو بلوغِ مأربٍ منه لدى المؤلِّف.
ويكون مطبوعاً في أوّل الكتاب أو في آخره عرفانَ جميلٍ أو تَوسُّلاً لِجَميل.
وهي ظاهرةٌ قديمةٌ معروفةٌ من أيام لوكريس وڤيرجيل وهوراس وشيشرون وسواهم مِمّن كانوا يُهدون أعمالهم إلى الحكّام والأباطرة طمَعاً برضاهم أو إظهاراً لولائهم أو مديحاً بولايتهم.
وفي تاريخ الأدب نماذج إهداءاتٍ رفعَها المؤلّفون طمَعاً برواج الكتاب.
من هنا عبارة ڤولتير أن الإهداء “وليدُ دناءة المعنيّ أمامَ اغترار الْمُهدى إليه”.
وفي التآريخ أن أدباءَ كانوا يتركون الصفحة الأولى من كتُبهم ورقةً طيارةً ينقِّلون عليها الإهداء من شخص إلى آخر قبل تجليد الكتاب، فينالون الحظوةَ أو الدعْمَ أو الرضى أو العطْفَ لأكثرَ من “مُهدى إليه”، وبذلك يضمنون رواج الكتاب أو تكاليف طباعته.
وغالباً ما تكون في تعابير هذه الإهداءات مبالغاتٌ ومغالَيَاتٌ توَسُّليّةٌ تُفقِد من هَيبة المؤلف الذي قد يكون أحياناً شاعراً مكرَّساً أو كاتباً معروفاً، كما حصل مع كورناي إذ أهدى مسرحيتَه “سِينّا” إلى السيد دومونتورون وشبَّهَهُ بالأمبراطور أغسطس قيصر، ما جرَّ على الكاتب لوم معاصريه لتَزَلُّفه الرخيص أمام الحاكم.
وقد يرفض الحاكم تزلُّف الإهداء إن وجدَه تكسُّبياً، كما رفَضَ الملك لويس الخامس عشر إهداء ڤولتير إليه قصيدته الملحمية “الهنريادا” لأنه كتبها أصلاً عن سيرة الملك هنري الرابع.
2) الإهداء المباشِر من المؤلف إلى القارئ:
يَحصل غالباً في معارض الكتب.
ويندرِج في شقّين:
أ‌- إهداءٌ إلى الصحافيين والنُقّاد ومسؤولي الصفحات الثقافية والأدبية في كلماتٍ طَليّةٍ احتراميةٍ وربما مَدحيّة، رغبةً أو طمعاً بنشر كلمة عن الكتاب،
ب‌- الإهداء إلى القارئ الواقف أمام المؤلف، ما يُربك الكاتبَ أحياناً في كتابة عبارةٍ لقارئ لا يعرفه أو يعرفه لُماماً ويضطر إلى تدبيج كلماتٍ يسودها تهذيبٌ اجتماعي أكثر مما فيها صدقُ تعبير.
وثمة كتّاب قاصِرون عن الابتكار الفوري للقارئ أمامهم، صديقاً كان أو مجهولاً، يهيِّئون سلفاً عباراتٍ مُعلَّبةً يكتبونها إرضاءً لرغبة القارئ في الحصول على نُسخة يوقّعها له المؤلف شخصياً للاحتفاظ بها في مكتبته.
وكم كتبٍ في مكتبتِنا نشتريها من البسطات يكون مؤلفوها أدباء وشعراء كباراً، أو تكون حاملةً إهداءاتٍ من كبار، لم يهتمّ لها أولادهم أو أحفادهم فتخلّوا عنها وأخذَت طريقها الى رصيف بسطات الكتب، أو إلى مكتباتٍ خاصة لدى مَن يَهُمُّهم جَمعُ الكتب المهداة بتواقيع مؤلفيها الذين تزداد أهمية تواقيعهم بعد غيابهم.
وفي ظاهرة التواقيع هذه، سعيٌ واضحٌ من المؤلّف أو من الناشر لترويج الكتاب أسرع من انتظار بيعه على رف المكتبة.
وثمة ناشرون يَستعجلون المؤلّفين إنْجاز مؤلفاتهم “قبل موعد معرض الكتاب” لـ”تهيئة احتفال توقيعه”.
غير أنّ للتوقيع وجهاً آخَرَ مضيئاً جميلاً، تتجسَّد فيه العلاقة بين المؤلف وقارئه، في غبطة المؤلّف أن يُشاطِرَ أفكاره في كتابه مَن يُظهر الرغبة في تَلَقّيها.
أمَا هذه عُزْوَةُ الأديب الحقيقيّةُ من احترافه الكتابة؟