هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

673: “عنكما أغنّي”

“عنكُما أُغَنّي”
السبت 27 تشرين الثاني 2010
– 673 –

نصف مليون نسخة من كتاب باراك أوباما الجديد “عنكما أغنّي- رسالةٌ الى ابنتَيَّ”، كتبَه لابنتيه ماليا (12 سنة) وساشا (9 سنوات)، كان يمكن أن يكون رقماً لافتاً لكتابٍ عاديّ يتوجَّه الى القراء كأَيّ كتابٍ جديد تُصدره دار أميركية. غير أن وراء هذا الكتاب، الذي يُخاطب الأطفال في لغة سلسة عذبة بسيطة، رآه العارفون محاولة لرفع شعبية الرئيس الأميركي بعد خسارته الديمقراطية في انتخابات منتصف الولاية، بتوَجُّهِه الى جمهور تؤثِّر فيه لغة الأطفال، هو جمهور النساء والأمهات اللواتي – كما حلّلَت مديرة دار النشر سيلِندا لايك – “يتجاوبن أكثر مع المخاطبة البسيطة المباشرة”، إشارةً الى كتابَين سابقَين لأوباما “أحلام من أبي”، و”جُرأةُ الأمل”. وكان أوباما وضع كتابه الثالث هذا منذ 2004 ودفعه الى النشر قبل تولّيه الحكْم سنة 2009.
مهما يكن الدافع (تكتيكياً سياسياً لاستعادة نسبة شعبية، أو تلميع صورة رئاسية بتوَسُّل الكتابة للأطفال)، تبقى الكلمة هي المرساة الأُولى التي لا بدُّ من العودة إليها، والانطلاق منها، وتَوَسُّلَها لبلوغ المآل.
ففي “عنكما أُغني” تخلّى الرئيس الأميركي الرابع والأربعون، حامل “نوبل للسلام”، عما في كتابَيه السابقَين من خطابية اللهجة وأكاديمية النبرة، ورنا الى لغةٍ عذبة سلسة يطال بها الأولادَ أترابَ ابنتَيه ومَن هُم أصغرُ قليلاً وأكبرُ قليلاً. يفتتحه بسؤال: “أقلتُ لكما مؤخَّراً كم أنتما رائعتان؟ وكم وقْع خطواتكُما قادمتَين إلَيّ يَحمل الى نهاري إيقاعاتٍ راقصة”؟
سلاسةُ اللغة هي الأصل ووسيلةُ البلوغ. منها يخاطب الكاتب الأولاد بأسئلة عشرة، منها: “أقلتُ لكما إنكما خلاّقتان؟ وإنّ عليكما احترام تضحيات الغير؟ وأن تغنّيا أغنياتكما الخاصة؟”. وإذا وجد النقاد في الكتاب نتاج “ساحر كلمات” (وقد لا يكونُهُ هكذا لأنه أساساً ليس أديباً ولا شاعراً) ففي أنه بسيط البثّ، يرمي بكلمات قريبة شاعرية المناخ الى مخاطبة الأميركيين كمجموعة مغايرة يضع أفرادها معاً دُرَبَهُم ومواهبهم في خدمة أمّتهم الواحدة. ولأنّ ريع الكتاب ذاهب الى صندوق خاص بأولاد الجنود الأميركيين الشهداء أو المعوّقين في المعارك، وعنوانَه مأخوذ من أغنية وطنية أميركية، يذكّر بإرث تراثي يستعيد منه الكاتب13 علَماً أميركياً من قطاعات مختلفة كانوا آباء مؤسسين صنعوا الولايات المتحدة، وكلّ شخصية يُمهّد لها بسؤال: “هل قلتُ لكما إنّ…”؟
هنا نحن إذاً: أمام رئيس دولة كبرى يتوجَّه فيه الى الفئة الصغرى من بلاده: الأولاد. وهو يتميّز عن رئيسَين أميركيَّين سابقَين (روزڤلت وكارتر) كتبا للأولاد إنما في منحى مختلف. أهمية كتاب أوباما أنه ابتعد عن اللهجة الوعظية والنبرة الفوقية ليلامس الأولاد بسؤال يجيب عنه بالإضاءة على شخصية أميركية، وبالحثّ على التشبُّه بها في نسجها حلماً لها اشتغلت جاهدة حتى بلوغه وتحقيقه، فكل ولدٍ إذاً قادرٌ أن ينسج حلمه الخاص ويشتغل جاهداً حتى بلوغه وتحقيقه.
في العادة أن يخرج الرؤساء من الحكْم ويكتبوا مذكراتهم خلال ولايتهم. هذا الأُوباما غيَّر القاعدة، متوسلاً عبقرية الكلمة في التأثير، وخصوصاً في بلوغ مساحة الصغار، هذه التي لا يزال أدبُها عندنا قاصراً عن بلوغها الى حدّ كبير. ففي كثير ما يصدر في لبنان ومعظم ما يصدر في العالم العربي، قُصُورٌ عن بلوغ الأطفال في قاموسهم، وفي عالَمهم، وفي مدى اقتبالهم قصصاً أو معانيَ أو مغازيَ تأخذهم من سلاسة الكلمة الى وساعة الحلم، ومن شساعة الحلم الى رسم طريقٍ يبدأون برسمها في خيالهم الصغير متوسّعين به كلما زاد عمرهم سنةً بعد سنة، حتى تتّسع الطريق مدىً وبُعداً ومحطاتٍ يقطفون في نضجها ثمرة حلم لهم أول، بعيد منذ أيام الطفولة، متكوّن من زاد الثقافة مع التربية البيتية والمدرسية، بلوغاً الى شكّ العلامة عند نقطة الوصول. ومتى تحقق الحلم الموعود، يبدأ نتاج خلاّق إبداعي تكون أطْلَقَتْهُ شرارةُ كلمةٍ قريبة بسيطة سلسة عذبة سهلة في قصة قديمة من قصص الطفولة.
الحاكم الذي يَـبلغ قلوبَ أطفال بلاده، يضمن أن يتوسّع في بلوغه الى قلوب الكبار، ومنهم الى ذاكرة التاريخ.
وهذه موهبة لا تُعطى لجميع الحكّام.