هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

670: في رحاب الوحدة (2/2)

في رحاب الوِحدة (2/2)
السبت 6 تشرين الثاني 2010
– 670 –
وَحده يولَد، ولو مُحاط، ووحده يموت، ولو مُحاط. وبينهما يُمضي الإنسان حياته بين الوِحدة وتوَحُّدٍ وإحادية واستيحاد.
أتكونُ الوِحدةُ أن يكون الإنسان في انعزال؟ أليست انعزالاً عن السوى حتى ولو السوى آخرون وإحاطةٌ وحضورٌ ضئيل أو كثير؟
أتكونُ الوِحدةُ أَلَماً يُدَمِّر أم ألَماً يُحَرّر؟ أتكون فرضاً على الفرد في خريفه أو حتى ربيعه، أم خياراً يشتقُّه الفرد ليحياه في سكون؟
الوِحدةُ في الذات نَهجٌ يرسمه الفرد لِذَاته ويبقى إليه. في داخله يعيش – طوعاً أو قسراً يعيش – ويكون في سلامٍ مع ذاته ويهنأ.
الوِحدةُ في الدين انعكافٌ الى الصلاة والتأمُّل والتنسُّك والزهد، وهنا الوِحدة خيارٌ للتوحُّد بالله والانصراف إليه بلوغاً الى النيرڤانا.
الوِحدةُ حالةٌ نفسيةٌ طالعةٌ من الذات أو مفروضةٌ عليها، وفي الحالتين مرصودٌ عليها خَيارُ رفضها أو اقتبالها، كاملةً أو شبه كاملة. يُمكن المستوحد أن يكونَ – أو يظلَّ – مستوحداً ولو بين الآخرين، فيكون خياره تغييب حضوره لا غياب حضوره، وفي ذلك منحى مرَضي. ويمكن المستوحد أن يِخرج من استيحاده وهو بين الآخرين ثم يعود الى وِحدته واجداً فيها خلاصَه من الآخرين والتقاءه ذاتَه الجوانية حين يُغلقُ وراءه الباب ويدخلُ حُجرته وذَاته معاً.
والوِحدة حالةٌ خلاصية طالعةٌ من التوق أو من الإشاحة، وفي الحالتين تَحرُّرٌ من قيود الأرضيات الى الانعتاق الروحاني، فيكون المستوحّد ناسكاً في ذاته ومتنسّكاً عن السوى، ليقينه أن الأرضيات موقّتة زائلة، والروحانيات طريق الى الخلاص في الحياة الأبدية.
أَكون وحيداً إذا كان حولي سَديم الفراغ. وأَكون وحيداً إذا كان مَن حولي ليسوا حولي سوى بأجسادهم ولا خيط يجمعني بهم فكرياً أو ذهنياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو نفسياً أو بعض التقاء.
وأكونُ وحيداً – وأظلُّ وحيداً – إذا كان بَحثي عن الآخَر طال حتى حدود يأسي من وجوده أو إيجاده أو انوجاده أو وَجْده. وفي هذه الحالة الْمُرّة تكون الوِحدة حريتي وواحةَ ارتياحي بالعودة الى العزلة صديقةً ومُعزّيةً ورفيقةَ دربٍ، وصوتاً لا مرارة لصداه.
الآخَر هو الذي يكسر الوِحدة. الآخَر الصداقة. الآخَر الزمالة. الآخَر العلاقة عن بُعد أو عن قُرب. الآخَر صدى الوِحدة حين ليس للوحدة صوتٌ، فيظل الصّدى حاجِبَها عن الدخول الى المسافة الملتبِسة بين الذات والآخر. عندها تكون الوِحدة تواطُؤاً مُقَنَّعاً لا يَحسر طالما الآخر موجود، أياً تكن درجة انوجاده أو قرباه من الأنا. بين الأنا والآخَر تَوَاطُؤٌ خفيٌّ يفضحه انحسار الآخر حين يغيب ولا حسرة على غيابه. هذه هي الصداقات التي تنكسر على جانب الدرب. تقع في الهامش. وتزول حبةَ ثلج تحت الشمس.
لا خلاص؟ بلى، طبعاً. الخلاصُ هو في الحبّ. والحبّ هنا غيرُ المحبة. المحبة قد تكون لشخص، لأشخاص، لجميع الناس. المحبةُ عافيةٌ مصنوعة. تبقى ولو اصطدمت هنا أو هناك. تبقى لأنها مصنوعة، لأنها خيارٌ واعٍ مقصودٌ غير مخلوق. والمصنوع يغيّر ما دام الاصطناع يتغيّر.
الحبّ غير مصنوع. الحبّ حقيقيّ، مخلوق. يولد معنا. ينتظر اللحظة الحاسمة. ليس مصنوعاً كالمحبة. لا يستطيع أن يُصْنَع أو أن يتصنَّع. يكونُ أو لا يكون. حين لا يكون، لا يصطنع كينونته. يَنتظر. قد يطول انتظاره، لكنه لا يَـيأس. المحبة قد تنكسر لأنها بنت الأمل. الحبّ لا ينكسر لأنه من الرجاء. المحبة لا تعرف الوِحدة، لأنها لا تكون في ذاتها بل تكون حين ثمة آخرون. الحب يعرف الوِحدة. ووحدته في الانتظار الذي لا يَـيأس. يظلّ الرجل وحيداً حتى يلتقيـ”ها”، هي التي تكون في مكانٍ ما، في زمنٍ ما، ثم يلتقيان. في شرنقةٍ واحدةٍ يلتقيان. قَبْلَـ”ها” يكون واحداً. ويكون وحيداً. حين يلتقيها لا يعود وحيداً. ولا يبقى واحداً. يصبح الاثنان واحِدَين. تُصبح “هي” وحيدته. تصبح وِحْدته التي تشعبَنَت وسْعَ الرجاء الذي لا ينكسر. يُحبُّها في وِحدته ويُحبّها في اتحاده بها. ويُحبُّها معه ويُحبُّها في انتظاره إياها كي تكون معه. العاشق لا يعود يُتعبه الانتظار لأنه لم يعُد وحيداً. يُفيده الانتظار لأنه مسكون “بها”. لا يعود العاشق في الوِحدة. يصبح في الاتحاد. في التوق الى الاتحاد “بها”. والتوق سُكنى جميلة. والسُكنى تطرد الوِحدة. الوِحدة في الحبّ اتحادٌ وانوجادٌ وتَحَرُّر. الحبّ أفق رحيب لا تسَعه الوِحدة. لا يعود العاشق وحيداً حين يثمر انتظاره و”تأتي”. عندها تصبح وِحْدته دنيا مضيئةً من الحبّ، وِحدتُها انوجادٌ وَحيدٌ في المعشوقة، وذَوَبانٌ إليها حتى أقصى التوحُّد بِها:
كنتُ وحدي ما بينهم لم أكن أحيا حضـوراً لهم ولو كان حَدّي
وإذا، منذ أَنـتِ كُـلُّ حضوري، صرتُ أشتاقُ أن أكون لِوَحدي