هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

956: بيني وبينك

الحلقة 956: بيني وبينك
الأربعاء 10 تشرين الثاني 2010

من آداب الحوار الثُّنائيّ، أولاً: أن يأْتَمنَ أحدُهما الآخَر على موضوعٍ فيهامسَه: “بيني وبينك”، ما يفترض أمرَين: أنّ الذي يتكلَّم يَثِقُ بالآخَر، وأنّ هذا الآخَر يُصغي الى ما يقولُهُ لَهُ مُحدّثُه.
ومن أدبيات الحوار ثانياً: عدمُ المقاطعة، فإذا بدأَ الآخَر جوابه أَصغى الأول إليه كما كان الآخَر يُصغي إليه وهو يتكلَّم.
ومن أدبيات الحوار ثالثاً: طبيعةُ الحوار نفسُها، فلا يأتي الأول بفكرةٍ مُعلَّبةٍ لا يَحيد عنها، ولا يُصِرُّ الآخَر على فكرته المسْبَقة ليس يَحيد عنها. ومتى تَخلّى الطرفان عن شروطهما المسْبَقة والْمُعَدّة سلفاً لفرضها على الآخَر، وصل الحوار الى خواتيمه المثمِرة، وبلغ الطرَفان نقطةَ إقناعٍ واقتناع. فالحوار في جوهره إقناعٌ واقتناع، وإلاّ فهو كلامٌ إِحاديّ، مونولوغ لا ديالوغ، ولا يُمكن بلوغُ أيِّ نتيجةٍ من أيِّ مونولوغ يفرضه طرفٌ على الطرف الآخَر.
ومن أدبيات الحوار رابعاً: الابتعادُ عن الصّدامية في الكلام، لأن في الصّدامية استفزازاً يجعل الطرف الآخَر يتصلَّبُ أكثر في مواقفه وأفكاره وآرائه، ويتوقَّفُ عن الإصغاء، ويقاطعُ، ويفرِضُ فرضاً لا يناقش، وفي هذه الحالة لا جدوى من الحوار لأنه لن يوصِلَ الى أيِّ نتيجة.
ومن أدبيات الحوار خامساً: التَّكَلُّمُ في هُدوءٍ ورويّة وثِقةٍ ومنطق. ففي تَكَلُّمٍ بهذه النبرة الهادئة: عنصرٌ أوَّلُ لجذب الآخَر الى الإصغاء، وعنصرٌ ثانٍ للاقتراب من إقناعه، وعنصرٌ ثالثٌ لإقراره بالرأي الآخَر حين يتحلّى هذا بِحُجة الإقناع. أما التوتُّر والانفعالُ والصوتُ العالي والصراخُ الموتور برفع الصوت وجحوظ العينين وكاريكاتورية عضلات الوجه وحركات اليدين، فعناصرُ تُفقِد المحاوِرَ سلَفاً جميعَ أوراقه قبل أن يُنهي عَرض أوراقه.
لماذا كلُّ هذا الكلام الآن؟ ولِمَ هذا الموضوعُ اليوم؟
لأننا نسمع منذ أسابيع بِـ”طاولة الحوار” التي يرصُد عليها المسؤولون آمالاً ببلوغ الوطن عبرها نقطةَ التقاءٍ بين الأطراف الذين يتولَّون قيادةَ الوطن، وتنتظرُهم طاولةٌ مستطيلة يَطولُ إليها الكلام، ويَطالُ جميعَ الكلام، ويتطـاولُ حولها الكلام فيسقُط، حين لا يُصغي فريقٌ الى الآخَر، وحين يأتي فريقٌ بأفكارٍ جاهزةٍ سلفاً، مُعَلَّبةٍ مسْبقاً، مركَّبةٍ على قياسه لا يرضى لها تعديلاً ولا يُصغي الى مُحاوريه وطروحاته.
طاولةُ حوارٍ لإنقاذ الوطن؟ فَلْيَكُنْ.
إنّما فليبدإِ الحوارُ من نيّة الإصغاء سلَفاً، كأَنه يبدأُ من مبدإِ “بيني وبينك”.
ثم فَـلْيُكْمِلْ الى العُروض.
كلُّ ما يبدأُ بالسَّلَف المعَلَّب يقعُ في التحَجُّر المعلَّب.
وعندها لا تعودُ طاولة الحوار سوى طاولةٍ من خشَب، عوض أن تكون مائدةً عليها أَرغفةٌ تُقدِّمها الى الشعب كي يَشْبَعَ الشعبُ طمأنينةً الى غَدِهِ المجهول.