هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

939: لن يصيح الديك… و…سيطلع الفجر

الحلقة 939: لن يصيح الديك… و… سيطلع الفجر
الأحد 12 أيلول 2010

خلال بحثي عن مواضيعَ من تراث لبنان لإدراجها في موسم 2010-2011، سلسلةَ محاضرات وندوات وعروضٍ في البرنامج السنوي المعتاد لـ”مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU)، يعود السؤال إياه الى بالي: ما التراث؟ هل يعني فقط ما هو ماضٍ ولن يعود؟ هل هو المحجوزُ في صندوقٍ عتيق نَفْتَحُهُ كي نَستطلعَ ماذا في الصندوق؟ هل هو مُختزَلٌ فقط بالأغاني القديمة والعادات القديمة والذكريات القديمة والوجوه القديمة التي غابَت ونستذْكِرُها على المنبر أو المسرح؟
ثماني سنوات من عمر “مركز التراث”، ونحن نَستعيد ماضياً نُحييه، ووجوهاً نَستحضرها، وأعلاماً نتذكَّرهم ونذَكِّر بهم.
ثماني سنواتٍ من الندوات في الآداب والفنون والمعارض، من أجل إبقاء الذاكرة الجَماعية نابضةً حاضرةً لا الى نسيان.
هذا هو العمل على التراث الراهن من أجل مستقبلٍ له يَضمن إحياءه من الماضي الى كل حاضر لاحق.
غير أنّ التراث ليس هذا وحسب. إنه الذي نبنيه اليوم فردياً كي يصبح غداً ذاكرة جَماعية.
إنه العمل الحضاري على الأرض والإنسان.
إنه نبض الأصالة في الإنسان: سُلوكاً وتصرفاتٍ وأقوالاً وأفعالاً تبقى معه وبعده فيُذكَر بها ويستعاد ذكره الخيِّر بعده.
هذا هو المشهدُ الثقافي الحضاري الأكاديمي على المسرح التراثي الغنيّ الواسع.
فهل هو كذلك راهناً على المسرح السياسي؟
إذا كانت الأصالة في الأشخاص والأعلام والأعمال هي التي تبقى ذكراً وذكرى وموضع استذكار، فهذا يعني أن أبناء الأَصالة هم وحدهم الذين يبقون خالدين على الزمان بأفعالهم وأعمالهم وسُلوكهم وأدائهم.
فهل هذه الأصالة موجودة بِهذَين التمام والكمال على المسرح السياسي؟
مثلما يسقط الزيف عن الأداء الثقافي فلا يبقى من صاحبه أيُّ ذِكْر، وكما يسقط التراث المزيَّف فلا يبقى إلا التراث الأصيل، هكذا في المشهد السياسي: يسقط الزيف ولو كان عالي الصوت، ويغرَق في النسيان ولو كان عالي القاموس، ولا يبقى من الماضي والحاضر والمستقبل إلاّ الأصيلُ برصانته وتواضُعه وأَدائه الصامت أو المتّزن من أجل الوطن، يَصون الوطن، يَعمل للوطن لا لشخصه هو، يؤدّي واجبه للوطن لا يُوْدِي وجُوبَه لأزلامه ومَحاسيبه والمصفّقين له ببّغاوياً.
الأصالة الحقيقية هي التي تأخذ السِّهام بصدرها، وليست في حاجة لِمن يدافع عنها، ولا لِمن يَحكي عنها.
الزيف الموَقّت هو الذي يَحتاج لِمن يَحكي عنه، ويُهَوْبِرُ له، ويصفِّق له، وينظِّر له في كل موضع ومناسبة.
التراث ليس الماضي وحسب، بل هو الحاضر الذي يستحقُّ دخول المستقبل كي يكون له ماضٍ في الذاكرة الجَماعية.
ويا تعس الذي يظنُّ أنّ صيحة الديك العالية تُطلِع الفجر، لأنها صيحةٌ مزيَّفة.
وسيكتشف يوماً أن صياحه العالي لم يعُد يوقظ أحداً، ولا حتى أزلامَه الْمُهَوْبِرِين.
وسيرى أنّ الفجر يطلع بِهِ وبدونِه، ويُشرِق على الناس الذين يَستحقُّون، بأصالتهم، نعمةَ الفجر.