هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

659: من الشخص إلى الشخصية (1/2)

أ ز ر ا ر
من الشخص الى الشخصية (1 من 2)
السبت 14 آب 2010
– 659 –

وأنا أُقارب هذا الموضوع بين شخص الكاتب وشخصيات نَصِّه، حضَر الى بالي يوسف حبشي الأشقر يوم زُرتُه في بيت شباب (1986) فوجدتُهُ على بعض اضطراب. ولدى سؤالي أجابني أنه في محنة مع بطل روايته “الظل والصدى”. وما المحنة؟ يريد يوسف أن يُنهي الرواية بقتل بطلها اسكندر، لكن البطل (في تعبير يوسف حرفياً) “يرفض أن يموت”. غادرتُه ليلتَها وهو يتخبّط في المحنة بينه وبين اسكندر. وحين صدرَت الرواية (1989) وقرأتُها، سارعتُ الى استكشاف نهايتها فوجدتُ أن اسكندر هو الذي انتصر على قلم الروائي.
العلاقة العضوية المباشرة بين الكاتب وشخصياته تأخذنا الى رائد الأدب الفرنسي الواقعي غوستاف فلوبير والشخصية الخالدة التي خلقها: إيْمَّا في روايته “مدام بوڤاري” (1857)، وأجاب عن واقعية شخصيتها: “مدام بوڤاري هي أنا”. وفعلاً: عبقرية فلوبير في وصف علاقاتِ حبٍّ وهمية عاشتها سيّدة ريفية في مجتمع تقليدي، أعطت إيْمَّا صفة كلاسيكية عالية ما زالت تلاقي لدى القراء في كل جيل وكل عصر تَماهياً أو استنكاراً. إنه الروائي تماهى في شخصه وشخصيتها وصار “هو” “هي” حتى قال لصديقه الناقد والمؤرخ إيپوليت تين: “حين كنتُ أكتب مقطع تَسَمُّم إيْمَّا بوڤاري، شعرتُ بطعم الزرنيخ في حلقي”. ولقوّة الواقعية في رسم تلك الشخصية درجت “البوڤارية” نموذجَ تصرفاتٍ مُماثلة لأشخاصٍ عاشوا أو يعيشون الوضع الذي عاشته إيْمَّا بوڤاري.
هذا التماهي بين الكاتب وشخصياته الروائية أو المسرحية، يُودي غالباً الى تغليب الشخصية على الشخص فتَرُوج الشخصية في التداول ويتراجع الشخص (الكاتب) الى بعضٍ من الظل، إلاّ لدى المتنوّرين. هكذا يتداول العامة، مثلاً، رمز “دون كيشوت” أكثر من ذِكْرِهم سرڤانتس، حين كلامُهم على بطولات وهمية يدَّعيها أحدُهم ولا يأتيها.
وينسحب هذا الأمر على حالات كثيرة في الرواية أو المسرح أو السينما: أن تعيش شخصيةٌ في الذاكرة الجماعية أكثر من صاحبها، وأن تَخْلُد شخصياتُ كتابٍ أكثر من صاحب الكتاب، حتى ليكاد الكاتب يُحسَد من شخصيةٍ أوجدَها وأطلقَها، انتشرت بين الناس فتداولوا بها وشاعت على أَلسنتهم فيما بقي هو مُجَمَّداً اسماً على غلاف كتاب. كم عدد الذين يربطون شخصية إليزا دوليتْلْ بصاحبها جورج برنارد شو في مسرحيته “بيغماليون”، مقابل الذين شاهدوها في “ماي فير ليدي” (“سيدتي الجميلة”) مسرحيةً أو أوپرا أو فيلماً سينمائياً أطلق نجومَه الى العالم وبقي جورج برنارد شو اسماً جامداً في لائحة جِنِريك الفيلم؟
هذه الظاهرة في اشتهار الشخصية، على حياة كاتبها أو بعد غيابه، تأخذ حيِّزاً شاقاً من الكاتب وتتّخذ مساحة واسعة من القراء فتنتصر المساحة على الحيِّز، ونادراً ما يتوازيان في ربط الشخصية بكاتبها عند ذكرها. فغالباً ما يغيب صاحبُها عن الحياة وتبقى هي حيَّة من جيلٍ إلى جيل ومن عصر الى عصر، إلاّ إذا كان الكاتب، في عمق سريرته، يعتبر استمرار شخصيته في الزمان حياةً ثانيةً دائمةً له بعد غيابه.
والشخصية قد لا تكون دائماً لـ”بطل” العمل الأدبي، بل ربما شخصية ثانوية أو شخصية شريرة أو طريفة أو هامشية في النص أو المجتمع، لكنّ القراء يتماهَون بها واجدين فيها صورة لهم أو لأشخاص في مُحيطهم. ويمكن الشخصية الواحدة أن تحمل أكثر من نموذج حيٍّ حولنا، فتكون فيها ملامح متعددة من نماذج عدة في المجتمع، على غفلة من الأشخاص الحقيقيين.
وهو ما رمت إليه المحلّلة النفسانية كارولين كوفمان: “في الكثير من النصوص تتوزّع النماذج على أكثر من شخصية واقعية حية من محيطنا الذي نحمل في داخلنا لَمحةً من كل واحد بين نماذجه. ولو لم نكن نحملها، لَمَا كنا نقدّر شخصياتٍ أدبيةً تُمثّل أشخاصاً حقيقيين نفتقدهم نماذج”.