هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

653: لِمَن يكتب الشاعر؟ (2/2)

لمن يكتب الشاعر؟ (2/2)
السبت 26 حزيران 2010
– 653 –

الشعر والواقع ثنائيٌّ متضادٌّ مرةً، متكاملٌ أخرى. وككل ثنائي حي نابض، يحصل أن يكون بين طرفَيه حبٌّ وكراهية، اضطرابٌ وانشداد، سوءُ تفاهم وشغَف، وقوعٌ في العابر وطموحٌ الى الديمومة.
قد ينطلق الشاعر من الخيال ليُسقِطه على الواقع، على واقعه هو أو واقع يتمنّاه. وقد ينطلق من الواقع، واقعه هو، ليرتفع به الى الخيال مضْفياً إياه عمودياً على أفقية الواقع المسطَّح ليخلق منه مزيجاً من جمال. فالجمال، في ذاته، مكوّنٌ من عناصر خالدة ثابتة لامحدودة، تختلف باختلاف النظرة إليها.
من هنا السائد أن الشاعر “يعيش في الغيوم”، في عالم افتراضي يريده واقعياً ويريد لقرائه أن يتلقّوه على أنه واقع. ومن هنا صفة الشاعر “الحالم” التوّاق الى حلم بعيد قد يُمضي عمره كلّه ينسجه قصائدَ قصائدَ، كأنها جميعَها قصيدة واحدة ذات رؤية واحدة وغاية واحدة: بلوغ تحقيق الحلم. فالشاعر يُمضي عمره يكتب قصائد في الغزل (دون الحب)، ينسجها على أنها حُبّ، حتى تأتي ساعة الحب الحقيقي فيبلغ عندها حلمه المنتظَر طويلاً، وينتقل من كتابة الحلم الى عيشه ونسجه في شعره الجديد.
لِمَن يكتب الشاعر إذاً؟ له؟ ليذوق هو طعم حلمه أو توقَ حلمه أو بلوغَ حلمه فجرَ الواقع؟ وهل الواقع في قصيدة الشاعر يبقى كما هو؟ أم يُجَمّله الشاعر كي يصبح واقعاً مقبولاً منه أولاً ومن قرائه بعده؟ هذا الرفض، رفض الواقع، هو الذي يولّد الشعر الغنائي الرومنسي الذي يبتعد عن الواقع ويهوّم في فضاء جميل ملوّن لا علاقة له مطلقاً بواقعية الواقع. يذهب الشاعر الى الكلام على الورد والليل والانتظار ومناخات شبيهةٍ تَحمل الشاعر بعيداً فيحمل بها قراءه الى أجواء تبعدهم عن واقعهم اليومي، أجواء لا جاذبية أرضية فيها، بل هي خارج كل جاذبية، يتفاعلون معها خلاصاً من أرضية همومهم المادية الى فتحة ضوء في سماء الأحلام. مهمّة الكتابة أن تأخذ قارئها الى رحلة نحو آفاق جديدة، ومشاعر جديدة، يتماهى فيها القارئ أو يبتعد بها عن واقعه المباشر.
هكذا: حين يجيء الشاعر من الخيال الى الواقع، يُجَمِّل الواقع بالخيال. وحين ينطلق من الواقع الى الخيال يختار الجميل من الواقع، لا واقع الواقع كما هو. وهنا فضل الشاعر على العالم الحسي: هو ابن هذا العالم لكنه رافضُه وتائقٌ الى أبعدَ منه، الى تجميله كي يُصبح مقبولاً من الشاعر وقرّائه معاً، ولكي يخلق في قارئه قوةَ أن يواجه الواقع المر مطرَّزاً بعبق الشعر.
وهي هذه مادة الشعر: بنْتُ الواقع لكنه أُمُّه في آن، تعيد صياغته جميلاً لتخلق فيه شجاعة مواجهته على ما هو. فالشاعر يخلق في قرائه شجاعة أن يواجهوا الواقع. هكذا يكون الشعر هو الخلاص، وتتجلّى في الشاعر صورة المخلّص.
صياغة الواقع جميلاً، دفعت روائياً لم يكتب في حياته بيت شعر واحداً، أن يقول: “وحده الجمال يخلّص العالم”. إنه دوستويفسكي الذي أدرك أن للشاعر مهمةَ خلق الجمال حوله، فيتلقى القراء قصائده نسغاً لهم، يتذوّقون منها الجمال فيغدقونه عليهم وعلى محيطهم ليكون فيهم وفي محيطهم الجمال.
مادة الشعر إذاً: جمالٌ يغلِّف الواقع، يرتفع به عن الواقع، لكن فيه قلبَ الواقع حين القصيدة صادقة وشاعرها صادق. الشاعر، في حالة الصدق، هو ابن الواقع المنقول الى الجمال، وفي حالة غير الصدق هو ابن واقع يصوغه هو ليخلق منه واقعاً.
القارئ هو الحَكَم الذي لا يخطئ حكمه ولو طال اكتشافه الخطأ. لأجله يكتب الشاعر، وتالياً يعرف بالحدس حين الشاعر يستعمل تعابير عامة يغدقها باردةً في أيّ وقت وأيّ مكان فتبقى باردة ولا تحرّك قارئها، وحين الشاعر يغط كلماته في واقعه النابض ويُخرِجُ بها شعراً صادقاً، تعابيرُهُ طالعةٌ من واقعه، مزيَّنةٌ بخياله، زاخرةٌ بصدقه، متجهةٌ الى القلب قبل العقل، عازفةٌ على وتر واحد وحيد: القصيدة بنتُ الحدث الواقعي الذي يخلق الحالة الشعرية، لا بنت الحالة الموهومة التي تخترع الحدث.
الشعر حقيقة لا وهم، والشاعر الشاعر ابن هذه الحقيقة.