هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

911: عاريات في الحقل بعد منتصف الليل

الحلقة 911: عاريات في الحقل بعد منتصف الليل
الأحـد 6 حزيران 2010

نهايةَ الأسبوع الماضي، انشغل الوسط الفرنسي بالسرقة المذهلة التي حصلَت في متحف باريس للفن الحديث، حين تسللّ لصوص محترفون، بعد منتصف الليل، في غفلة عن حرّاس المتحف وبعد تعطيل جهاز الإنذار الإلكتروني، وسرقوا خمس لوحات خالدة نادرة، لبيكاسو (“الحمامة وحبوب البازلاء – من 1911”) وهنري ماتيس (“عاريات في الحقل”- من 1905)، وجورج براك (“الزيتونة” – من 1906)، وفرنان ليجيه (“الشمعدانان” – من 1922)، وأميديو موديغلياني (“المرأة ذات المروحة” – من 1919). ويقدِّر الخبراء قيمة اللوحات بمئة مليون يورو.
أبعدُ من التوقُّف عند ذهول شرطة باريس (لتكرار مثل هذه السرقات الكبرى التي باتت تعدّ حتى اليوم نحو 80 الف عمل مسروق منذ 1975) وضعف الحراسة، وتقنية تعطيل أجهزة الإنذار، ونَشْرِ الإنتربول صُوَرَ اللوحات المسروقة للاهتداء إليها والإخبار عنها، يتوقّف المتسائل عند الظاهرة نفسها.
السارقون تركوا أُطُر اللوحات في مكانها، ما يعني أنهم نشَرُوا القماشة عن إطارها ولفُّوا اللوحة وحملوها. ولكن الى أين؟ مقتنيها مسروقةً لن يتجاسر على إعلانها أو عرضها في بيته. إذاً سَيَتَمَتَّع بها وحده. وهذه أنانيةٌ مؤْذيةٌ مرتين: أُولى لأنه حَرَم الغير من التَّمَتُّع بها، والأخرى لأنه لا يستطيع الكشف عنها. وقيمة اللوحة أن تكون معروضة لدى مقتنيها.
حين يصبح الفن يُغري بالامتلاك الى هذا الحد، أو داعيةً للاستثمار، فمَن ذا الذي يسرق إذاً؟ ولماذا يسرق؟ وأيةَ فائدة يَجني من سرقته؟ إن كانت للربح السريع، فهذه مُخاطرةٌ سريعةٌ تودي به الى الهلاك عند انكشافها، وليس انكشافُها صعبَ التحري والوصولِ الى سارقها. وإن كان للحاجة، فأيةُ حاجةٍ هذه التي لن تُشبعَ مقتنيها ولا في حال، عدا التلذُّذ باقتناء عمل مسروق خالد عالي القيمة، وأقصى غايتِه: لذّةُ شعوره أنه يقتنيه لديه ويحرم منه سواه. وهذه آفةٌ سيكولوجية خطرة.
الغاية هنا لا تبرّر الوسيلة، لأن مُحِبَّ الفن لا يسرُق حتى يبلغ غايته، بل يشتري اللوحة كي يقتنيها ويعرضَها ويتمتّعَ بها ويُباهي بوجودها لديه، وهذا ليس مُمكناً مع لوحاتٍ شهيرةٍ مسروقةٍ باتت صُوَرُها موزعةً في العالم، وتالياً كلُّ من يقاربها ليشتريها، معرَّضٌ للخطر فلا يُمكنُه بيعُها الى متحف (لأنه يدقّق فيها) ولا الى هاوي تُحفٍ (لأنه يعرف أنها مسروقة)، إلاّ إذا تَمَّ ذلك، بقَرصَنَةٍ ما، في بلدان لا تَخضع لاتفاقات استرداد الأعمال الفنية، ولا تدقِّق في مصادرها.
وفي تحقيق مع الاختصاصية في الاقتصاد الثقافي ناتالي مورو، قالت إن ذلك يدخل في باب “جنحة الشغَف” لدى متموِّلين كبارٍ يَستكملون بالأعمال الفنية صورتهم الاجتماعية، أو لدى هُواةٍ مهووسين باللوحات، لا يوجعُهم ثمنها، ولا تَهُمُّهم إعادةُ بيعها، فيحتفظون بها في علاقة حَميمة بينهم وبينها. وهذا ما تسمّيه مورو مَرَضاً نفسانياً شبيهاً بـ”أعراض ستندال” (المعروفة في عالم الفنون) وهي تؤدِّي بِمَرْضاها الى حالة اندهاش أمام العمل الفني فلا يعودُ يَهُمُّهم أن يكون مسروقاً، بل يَهُمُّهم أن يُبقوه، ولو سراً، لديهم وحدَهم دون الآخرين. ولعلّ هذا ما يفسِّر إقدامَهم على تكليف لصوصٍ مُحترفين سَرقةَ أعمالٍ فنية خالدة.
هكذا يتسلّلُ أشباحٌ في عتمة الليل، باحثين في الحقول المشرَّعة عن زيتونةٍ وحمامةٍ ومروحةٍ من حرير وشمعدانٍ من فضّة، ويفاجئون العاريات في الحقل، فيُدثِّرون الكلّ سراً، وينطلقون بها جميعاً نحو… مصيرٍ مجهول.