هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

649: الثقافة… هذا الطائر المتمرّد

الثقافة… هذا الطائر المتمرّد
السبت 29 أيار 2010
– 649 –

على إيقاع الـ”هابانيرا” ورَدَت في أوپرا “كارمن” لجورج بيزيه أغنية “الحبّ طير متمرّد” جاء فيها: “الحبّ طير متمرّد لا يقْدر على تدجينه أحد. الحبّ ابن بوهيمي، لا يعرف قيود القوانين…” (غنّتْها ماريّا كالاس ولم تلعب الدور على المسرح).
هذا الطير المتمرّد، فَـرَّ مؤخّراً من “قفص صالة الأوپرا” و…طار في الفضاء الواسع. صارت الأوپرا نفسُها طيراً متمرّداً، فجعلَت معها الثقافة طيراً متمرداً لا تَحُدّه حدود ولا قاعات ولا خشبات مسرح. صار الفضاء اللامحدودُ كلُّه مسرحها.
كيف ذلك؟ في مدينة لِيلْ نفَّذ المخرج الفرنسي جان فرنسوا سيڤادييه أوپرا “كارمن” مع “أُوركسترا لِيل الوطنية”، لا مَحصورةً لجمهور محدود في صالة محدودة بل نشرَتْها إدارة “أوپرا لِيل” على أوسع جمهور، تحت شعار “شاهدوا أوپرا “كارمن” مَجّاناً في أقرب مكان إليكم”، معتمدةً وسائطَ تكنولوجيةً عدةّ لإيصالها الى مُحبّيها غير القادرين على بلوغ دار الأُوپّرا.
من هذه الوسائط: وضْعُ شاشات كبرى على نواصي ساحات عامة في مدن شمالية كبرى، منها: باحة مسرح آراس (عاصمة مقاطعة كبيرة في شمال فرنسا)، باحة ستوديو دانكيرك (مدينة كبرى على البحر شمالي فرنسا قرب الحدود البلجيكية)، ساحة فينيكس في ڤالانسيينّ (مدينة كبرى في الشمال)، مدينة لِيل نفسها (باحة دار “أُوپرا لِيل”)، ودعوة الناس للمشاهدة مَجّاناً.
ومن تلك الوسائط: بثُّ “راديو فرانس إنترناسيونال” الأُوپرا على الهواء مباشرةً من دار “أوپّرا لِيل”، مع تعليق فردريك لوديون (قائد الأوركسترا وصاحب البرامج الثقافية في “راديو فرانس”) ليشرحها ويقدمها الى هذا الجمهور العريض.
وأكثر بعد: أنشأَت إدارة “أوپرا لِيل” موقعاً إلكترونياً خاصاً بتلك الأمسية، فيه شروح مُصاحبة ومعلومات وتوضيحات عن أوپرا “كارمن” وتاريخها وعُروضها في العالم وأبرز ما صدر من مقالات وتعليقات ونصوص نقدية عنها وعن صاحبها.
وكانت كلّ هذه الظاهرة الكبرى بدعمٍ مباشر من وزارة الثقافة والاتصالات ضمن خطّتها الجديدة “مشاريع 2010 للخدمات الثقافية الرقمية الخلاّقة”.
هكذا خرجَت “كارمن” من خشبة المسرح الى “حوارها” الواسع مع الجمهور الواسع. وهو هذا ما كان أصلاً يرمي إليه جورج بيزيه حين وضعَها في حوارات. وما إلاّ بعد وفاته حتى انتقلت الى الشكل السردي، بينما هو شاء الحوار فيها يوازي السرد، كما في أيّ أوپرا كوميدية (وهي أساساً ليست كوميدية بل تراجيدية تَشوبُها مقاطع ساخرة)، وتدعم حواراتها أغانٍ تلطّف السرد بالحوار كي لا يأتي السرد مُمِلاً (كما كتب الباحث داڤيد لوماريك في دراسته “تاريخ السرد في الأوپرا والمسرح”).
هذا الحوار (الغالي على قلب بيزيه) تجسَّد (عبر الوسائط أعلاه) في تعميم الأوپرا على أوسع جمهور “تُحاوره” بمشاهدِها “كارمن”، بعدما “طارت” من مَحدودية خشبة المسرح الى وساعة الشاشات والساحات والباحات وأثير الإذاعة اللامحدود، فأصبحَت الثقافة معها طيراً حراً لا يَملكه أحد (هل أحد “يَملك” الثقافة؟)، واتّخذت الثقافة عالَماً فسيحاً واسعاً (هل مَن يُعَلِّب الثقافة؟) وباتت موزَّعةً لجميع الناس كالغيم، كالزهر، كالهواء، كاللون، كالعبير، ووصلت منتدى “حوار” الى جميع الناس، يتلقّونها، يتفاعلون معها، تُثقّفُهم، تُرقّيهم، تُهذّب ذائقتهم الفنية، وترفع مستواهم الذهني والفكري والشعبي الجماعي.
بذلك تغتبط روح جورج بيزيه في غيابه، بعدما رائعتُه “كارمن”، التي شاءها مشاهد حوارات، اتّخذت لها أبعاداً حوارية مع الناس، بفضل انفتاحها الواسع على هذا التبادل العريض معهم عبر وسائط التكنولوجيا الحديثة.
بين السرد والحوار، جدلٌ مقيمٌ يَحسمُه نشر الثقافة على أوسع مساحة من الناس، بالإفادة من وسائط تكنولوجيا العصر، لتكون الثقافةُ بنت العصر، وتبقى هذا الطيرَ المتمرّد الذي لا يَحصُره أحد في “قفص محدود”، تَماماً كما الحبُّ الذي يضوع من “كارمن”: طيراً بوهيمياً متمرِّداً لا تَحُدّه سُنَنٌ ولا قوانين.