هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

645: الحياة على إيقاع الرقص

الحياة على إيقاع الرقص
السبت أول أيار 2010
– 645 –
(الخميس 29 نيسان: “اليوم العالمي للرقص”، بقرار منظمة الأونسكو سنة 1982)

أبعد من أن يكون الرقص مُجرّد متعة أو شكل ظاهر لتعابير الجسد، هو ذائقة مستقلّة في ذاتها، وتعبير داخليّ عما في القلب والروح قبل أن يترجِم الجسد هذا التعبير. كل إنسانٍ راقصٌ على طريقته، تحمله الحياة نفسها الى أن يحتفل بها إثباتاً لعيشه الحياة. فالرقص كالحياة: يَجْمع ويُباعد، يَضُمّ ويفرّق. والرقص كالحب: يتخطّى كل منطق، والرقص كالإنسان: عابرٌ كَلُهاثٍ عابر، وراسخٌ كجوهر ثابت. الرقصُ ينحت الهواءَ أشكالاً وميضة لا تتلاشى مع نهاية الرقصة بل تُكمل في الخيال الى إيقاعات هامسة في القلب، الى لغةٍ للجسد من دون كلماتٍ بل أبلغ من كلّ الكلمات، يَفهمها كلُّ إنسان في عمق روحه ومشاعره الصامتة. في الرقص يُمجّد الإنسان المدى الذي يسكن فيه ويَحتويه معاً. يُمجّد الحياة. يُمجّد الخالق. وليست مصادفة أن يكون الرقص، في القديم، طقساً من طقوس العبادة، إن لم يكن طقس الطقوس. نتذكَّر احتفالات الرقص الديني في أفقا تذكاراً لمصرع أدونيس. نتذكَّر “الديونيسيات” (نسبة الى ديونيسوس إله الخمر في الميثولوجيا اليونانية) وتقديم الأُضحيات في المعابد على إيقاعات الرقص.
الرقصُ ثنائيٌّ متناغمٌ، قائم على الحِس والحَدس معاً، على الخيال والواقع معاً. الرقص يرسِّخ الحاضر في ما هو حاضر، يأخذ من الماضي زهوته ومن الآتي تَمَنّيه الأجمل. يصبح الجسد هو المكان وتصبح الرقصة هي الزمان. والرقص أفضل تعبير عن الشعور بأصداء الحياة فينا، بفرح أننا نحيا حياتنا في وعي الذات ووعي السوى معاً. من هنا يُثْبِتُ الإنسان كينونته بالرقص الذي تخلقه تجاربه في الحياة بما في تلك التجارب من حيوية وانفعالات. كل إنسان “يرقص حياتَه” على طريقته، ولو لم يرقص على حَلَبة.
الرقص ليس تعبيراً إحادياً. فهو مرة ترجمةُ الفرح أو اللهو أو المتعة أو الهذيان النيرفانيّ أو الذهاب الى الحرب، ومرات هو ترجمة الحزن والغضب والثورة. كم مرة نرى صبيةً ترقص فرحاً في عُرس، وكم مرةً نرى والدةً مفجوعةً ترقص في مأتم ابنها.
الرقص إذاً ليس “شكلاً” خارجياً، بل هو أعمق: نابعٌ من رغبة الإنسان في التعبير عما في الداخل بأشكال وطرائق تعتمد المدى الخارجي حلَبَةً مؤقّتة لترسم لحظةً داخلية في عمق القلب. من هنا أنّ الرقص أفضل صورة لهذا التعبير. فهو يتطلب الشريكين في حالاتٍ من سَكرة الروح والجسد معاً. في كل رقصة ينتظر الرجل المرأة، وهي تنتظر الرجل، كي تأتي اللحظة، كي يبدأ التلامس، كي تكون الزوغة على إيقاعات القلب قبل إيقاع الموسيقى، كي يُنصت الرجل الى موسيقى المرأة قبل نوطات اللحن الذي يراقصها عليه. في الرقصة يقودها هو، لا بالمعنى السُلطوي الذكوري بل بمعنى أخْذِها معه الى فضاء جمالٍ تصبح فيه المرأة شريكة رحلةٍ تعبّر فيها عن مشاعرها، في خطوة، في لفتة، في انعطافة، في لمسة حافية، في تصاعد أحاسيسها مع تصاعد الموسيقى على إيقاع داخلي يحملها على زند مُراقِصها الى دنيوات هي مرةً هربٌ من واقع، ومراتٍ بحثٌ عن منفذٍ لهذا الهرب.
تانغو الحياة المتطلبُ الشريكين هو رمزٌ حقيقي لنمط الحياة اليومية. كلٌّ منا يرقص التانغو على طريقته. تانغو الحياة قبل أيّة موسيقى. تانغو البحث عن الشريكة، حتى إذا وجدناها أخيراً نمسك بقلبها قبل ذراعها، ونطير بها أعلى من سطح الحياة، نحملها الى لحظات الحلم – ولو المستحيل أحياناً -، فالحلم أجمل ما في هذه الحياة التي، من دونه، تصبح صحراء ضاعت فيها الأربع الجهات.
في تانغو الحياة، تتَحدّد الجهات، تتّضح الطريق، يولد التأنّي، يصبح التَّنهُّدُ فسحةً جميلة بين خطوتين من تانغو العمر، تصبح النظرة الى العينين أعمقَ سفَراً فيهما الى القلب، والرغبةُ أنقى متعةً وأَصفى اشتهاءً، وغَمرةُ الزند هلالاً واعداً باكتمال بدر العمر.
لا عجب، بعد كل هذا، أن يكون الرقص “علاجاً” نفسياً وجسدياً. فهو الإيقاع الأقرب الى ضربات القلب، الى سماع قلب الآخر. وليس أدنى، الى القلب الشريك، من الغمرة الهيمى في رقصةٍ تَمَّحي لها الكلمات الى لغة تتخطى جميع الكلمات، لغة الجسد التي حروفُها نبضات، وكلماتُها مشاعرُ حافية.