هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

879: تيتانيك الجوّ التي ابتعلها البحر

الحلقة 879: تيتانيك الجو التي ابتلعها البحر
الأحد 31 كانون الثاني 2010

قـلَّ أن لَفَّ موجُ الحزن لبنان، كلَّ لبنان، كما منذ الاثنين الماضي عند ابتلاع البحر طائرةَ الموت، مغيِّباً في عمق لُجَجه الرهيبة أحباباً من كلّ لبنان، هَـزَّ غيابُهم كلّ لبنان.
ذلك الشاطئ الذي هوَت قبالته الطائرة المشؤومة، تضافرت الى فاجعته شواطئ لبنان، من شاطئ جونيه الى شاطئ صور الى شاطئ طرابلس، وناحت على أحبابها الغارقين مناطقُ من كلّ لبنان، من كسروان الى البقاع الى الجنوب الى الشمال، فلا منطقة إلاّ وجعت لِمأتمٍ لا تعرف بعدُ متى تسير في جنازته.
موجعٌ هذا الغيابُ الذي لم يعرف أحدٌ بعدُ متى قيامُ وداعه.
هو البحر، غرائبُه وعجائبُه، مفاجآتُه وغواياتُه. هو البحر الذي له مع لبنان حكاياتٌ منذ سحيق تكوين لبنان. فهو مرةً رحيبٌ لأهل لبنان ينقلُهم الى أقاصي المعمور ينشرون حضارتهم وثقافتهم، وهو مرةً يُعينهم على امتطاء أمواجه بَحثاً عن غلال طموحاتهم خلف بحار العالم، وهو مرةً يفتح أفقه الوسيع لهم عند شواطئ أخرى لرزقٍ ضاق به شاطئهم، وهو مراراً لُجَجٌ كم ابتلعَت أحبَّةً لهم ولم يعودوا ولا عادت منهم أخبار تنبئ عن مصيرهم الأسود.
غريبةٌ وغاويةٌ حكاياتُ البحر ولبنان. بعضها الأبيضُ المفتوح على الأمل، وبعضها قاتِمٌ مقفَلٌ على دموعٍ من غَصص وقهر، ولا زال شاطئه يَدفق المبهَم والواضح، المخيف والمغري، وتتكسَّر على رمال لبنان أمواجه، منها ما يعود بأهلٍ وأحبّة، ومنها ما يغيّبهم الى ذاك المجهول الرهيب.
عشية احتفال العالم (بعد سنتين) بالمئوية الأولى لغرق التيتانيك الضخمة (في 14 نيسان 1912)، صدمت لبنان الأسبوع الماضي تيتانيك الجو الإثيوبيةُ لتبتلع، كما تيتانيك البحر، أحباءَ لبنانيين سيظلُّ غرقهم في اللجج العميقة الرهيبة وجعَ أهاليهم وحرقة أحبابهم على هذه النهاية المفجعة.
تُكمل الحياة؟ صحيح. تُكمل الحياة.
والحزنُ الذي لفَّ لبنان الأُسبوع الماضي ولا تزال منه حرقةُ الانتظار تشغل المسؤولين والأهالي، لن يوقفَ الحياة من أن تكمل، صحيح، لكنه يَترك في الحياة غَصةً تبقى معلَّقة على تيتانيك الجو التي ابتعلها البحر، مبتلعاً معها أحبةً لن يَمحو الموجُ ذكراهم، ما دام في البحر موجٌ، وفي العيون دموعٌ، وفي القلب حُرقة ونواحُ أُمّهات.