هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

853: ولَّت أيام الحكواتي

الحلقة 853: ولَّت أيام الحكواتي
الأحد 1 تشرين الثاني 2009

إنطلاقاً من أنّ “كلَّ مكتوب يبقى وكلّ مَحكيّ يزول”، تنقسم المجتمعات فئتين: مُجتمع المحكيّ ومُجتمع المكتوب.
في المجتمع المكتوب لا يحتاج المواطن الى السؤال والاستفسار والاستفهام والاستدلال، لأن كلَّ معلومةٍ يطلبُها مكتوبةٌ أمامه: في القوانين، في الأُصول، في القواعد، في المحالّ التجارية، في إشارات السير والطرقات والتوجُّهات المرورية، في اليافطات واللوحات الإعلانية، في حقوقه المدنية والبلدية والشخصية، في أرقام الشوارع وأرقام الأبنية، في الخرائط المتوفّرة للمدن والشوارع والطرق الرئيسية والأوتوسترادات الرابطةِ المدنَ والبلدان، في بياناتٍ مكتوبة تُرسلُها الدولة بالبريد الى المواطنين عن الضريبة أو سواها، وكلُّ ما يحتاج المواطن أن يعرفه يقرأُه في مكانه المحدَّد فلا يسأل ولا يستفهم ولا يُضِيع وقتَه ولا وقتَ سواه.
في المجتمع المحكيّ (ولو انّ بعضَ المطلوبِ مكتوبٌ) لا يصرف المواطن وقتاً على قراءة المطلوب بل ما زال معتاداً على كسل المحكي، فيُكثر من التسآل عوض أن يركّز على المكتوب. لا يقرأ لافتات الطرقات بل يتوقّف مراراً كي يسأل عن عنوانٍ يقصده، ولا يقرأ الملصقات في المحل بل يسأل الموظفة عن السعر ويكون السعر أمامه على القطعة، ويكون الشارع أمامه ويقف ليسأل عن الشارع وعن البناية وعن صاحب البيت المقصود، ولا يقرأ حقوقه وواجباته ويفضّل أن يسأل عن حقوقه وواجباته.
هذا هو الفرق بين التقليد الشفويّ والتقليد المكتوب في المجتمعات. ومن هنا استمرارُ تقليد الحكواتي الذي لا يزال ضالعاً في شرايين مُجتمعنا ولو بأشكال مُختلفة. وهذا التقليد كان سابقاً في المجتمعات الأخرى حين كان الباعة والتجّار (أو التروبادور) يتجوّلون في المناطق ويعُودون فيروُون مشاهداتهم وانطباعاتهم وأحداثاً جرت لهم. ومع الوقت تطوّر التقليد مستفيداً من حَكْيات الحكواتية فصار مدوَّناً ومكتوباً يطالعه المواطن ولا يعود يسأل.
في مجتمع المحكي مدوَّنٌ كثيرٌ من المطلوب، لكنّ أحداً لا يقرأ ولا يطبّق ولا يتبع المكتوبَ إرشاداتٍ وتعليماتٍ ومعلومات.
صحيحٌ أن في التواصل الشفوي بقاءً للعلاقات الإنسانية النابضة، لكنّ في كثيرها إضاعةَ وقتٍ على تسآلات يمكن اختصارُها في قراءة المطلوب واستخدام وقت التسآل في وقت مفيد أكثر ومنتج أكثر.
وإذا كان مُجتمع المحكيّ مرتبطاً بِجواب السؤال ومتعلّقاً بصاحب الجواب، فمجتمع المكتوب بات مستقلّ القرار والوقت ويوفِّر الوقت والقرار.
كل مكتوب يوفّر الوقت والتسآل ويزيد الفعالية والإنتاجيّة، وكلّ مَحكي يَهدر الوقت والتسآل والانتاجية معاً.
بعضُ الخلاص في مُجتمعنا: أن ننتقل من الوقت المهدور على الْمَحْكِيّ، الى الوقت المكتَنِز إنتاجيةً في مُجتمع المكتوب؟