هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

788: شاعرية البطاقات البريدية… ولا شِعر

الحلقة 788: شاعريةُ البطاقات البريدية… ولا شِعر
الأحد 15 آذار 2009

من البلاغة في إشارات الجسم الصامتة (الأحد الماضي: الحلقة 786) الى البلاغة (حلقة اليوم) في شاعرية الصورة الصامتة.
من هذه البلاغة الصامتة الشديدة التعبير، ما يشهده “متحف متروپُوليتان للفنون” (نيويورك) في معرض البطاقات البريدية التي كان جَمعها، طوال ستين سنة، الفوتوغرافي الأميركي الشهير ووكر إيفانس (1903-1975)، وكان هاوي جمعِ بطاقات بريدية، ووضع عدداً كبيراً من الصور صدرت على بطاقاتٍ بريديةٍ راجَت بين الناس وتراسلوا بِها في الخمسينات والستينات.
أهَمِّيَّةُ البطاقة البريدية أنّها ناطقةٌ ولا كلام، صارخةٌ ولا صَوت، معبِّرةٌ ولا شرح.
طرافتُها أنّها بَخسةُ الثمن، خفيفةُ الإرسال، لكنها غالية المدلول، غنيةُ الإيصال.
قيمتُها أنّها تَحفظُ اللحظةَ في الزمان – لَحظةَ التقاطِ الصورة-، وتُبقيها في الذاكرة، يُعاد إليها نوستالْجيّاً في لَحظاتٍ لاحقة، لاستذكارٍ أو اذِّكار أو تَذْكار.
إنّها وسيلةٌ لتخليد الزائل وإبقائه نابضاً للعين والقلب، تُجمّد الزمن والمناسبة والذكرى، في لقطةٍ، في جملةٍ، في مناسبة، وتَحفظ في البال معالِمَ زالت، أو أعلاماً غابوا، أو علاماتٍ تغيَّرَت.
وتأتي التعليقات على مقلب البطاقة، طريفةً أو عاطفية، حزينةً أو مرحة، وَفقَ الحالة التي يكون فيها المرسِل، حتى إذا مَرَّ وقتٌ على تلك البطاقة، تُصبح العبارةُ عليها ذاتَ مدلولٍ مُختلفٍ، آتٍ من الماضي ليلوّن نكهة الحاضر. تَماماً كمن يَحفظون بطاقاتٍ بريديةً عن بيروت الخمسينات والستينات ويعودون إليها اليوم يلوّنون نكهة حاضرهم بصور بيروت الماضي، ويتذكَّرون.
هكذا ينحبس المكان والزمان في بطاقةٍ بريدية تُخلّدُهُما معاً، وتُخلِّد معهما مناسبةَ شَرائِها أو إرسالِها أو توقيتِها المقصود. فإذا بِهذه الورقة الجامدة وعليها صورةٌ جامدة، تُحرّكُ مشاعرَ، تُوقظ ذكرياتٍ، تُشعل في الذاكرة حرائقَ، أو مشاهدَ، أو وجوهاً، أو لوحاتٍ حيةً من فصول الحياة.
وإذا كانت البطاقة البريدية يومَ استلامِها قرَّبَت مسافات المكان، فالعودة إليها تُقرّب مساحاتِ الزمان، تستعيدُها، وتضَعُها في راهن اليوم وذاكرة المستقبل، لأنّ العبارات عليها سجّلَت لَحظةً تُعاد وتُستعاد، والصورةَ فيها بليغةُ الشاعرية ولو بدون شِعر، معبِّرةُ النوستالْجيا ولو بدون صوت، شاهدةُ اللحظة ولو بدون شهادة.
تذهَب اللحظة، تذهب، وتعتَقُ المناسبة في خابية الأمس، لكنَّ بطاقةً بريديةً طالعةً من دُرْجٍ مَنْسيّ، تُعيد الوهجَ الى اللحظة، وتَسحب المناسبة من الأمس فتضعُها في نبضة الحاضر شرياناً من الذكريات يَمتدُّ الى الغد الآتي ويَجمع الماضي والحاضر والمستقبل في صورةٍ صامتةٍ بليغةِ التعبير، على وجهِ… بطاقةٍ بريدية.