هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

744: كوتا يومية لزيارة دالي

الحلقة 744: كوتا يومية لزيارة دالي
لـيوم الأحد 12 تشرين الأول 2008

عاد صديقي من رحلته الى فرنسا وأسپانيا، حاملاً معه ذكرياتٍ وأخباراً بعضُها مُمتعٌ والآخَرُ مؤثِّر. غير أنّ ما استوقفه في رحلته، واستوقَفَني معه، حرمانُه من زيارة منْزل سلفادور دالي في بلدته الإسپانية فيغويرِس (عاصمة قضاء كوماركا في كاتالونيا، وهي بلدةٌ من أربعين ألف نسمة في أقل من 20 كلم مربعاً، ومتوأمة مع بلدة پيرپينيان في الناحية الشرقية من الپيرينيه). وفي هذه البلدة أيضاً مسرح ومتحف سلفادور دالي كما صمَّمه هو قبل سنوات من غيابه، ويستقطب سنوياً آلاف الآلاف من السيَّاح يُمضون فيه ساعاتٍ طوالاً يتمتَّعون بغرائبية هذا العبقري الذي صبغ العصر بأعماله السوريالية.
أعود الى صديقي الذي زار متحف دالي (رسم زيارته 11 يورو)، ولم يستطع زيارة المنْزل (رسم الدخول إليه 10 يورو)، لأفهم منه أن يوم زار، كانت انتهت “الكوتا اليومية” للزوّار، المحدد عددُهم برقمٍ معيَّن لا يسمح المسؤول بتجاوزهم، وذلك كي يتاح للزوار، المدروس عددهم، أن يزوروا المنْزل ويتجوّلوا في أرجائه بكلّ اتساعِ وقتٍ، وراحة تَنَقُّل، من دون زحمة زوار، وكي يستطيعَ كل وفد على حدةٍِ مشاهدةَ فيلم قصير عن حياة دالي وأعماله، بِما لا يزعج هدوءَ المنْزل وترتيبَ ما فيه من أثاثٍ ومقتنيات مرتَّبةٍ في تأَنّي المتاحف الخاصة.
وعبثاً حاول صديقي إقناعَ المسؤول بأن زيارته فيغويرِس عاجلةٌ وقصيرة وهو جاءها فرنسا ليوم واحد خصيصاً ليزور منْزل دالي ومتحفه. كان المسؤول يرفض خرق القانون، وأجاب بأن الزوار يومئذٍ حاجزون موعد زيارتِهم “إنترناتِيّاً” قبل أُسبوعين، ولا يُمكن دخول المنْزل إلاّ بعد حجز موعد الزيارة. خرج صديقي خائباً وراح يدور حول المنْزل من خارج، فَلَحِقَ به رَجُلُ أمنٍ من حرّاس المنْزل وَزَجَرُه طالباً منه الابتعاد لأنه ليس من الزوار نَهارئذٍ، وتالياً لا يستطيع أن يرى المنْزل حتى من الخارج.
حين ختم صديقي كلامه، غصَّ قلبيَ إذ قارنتُ بين الـ”هناك” (حيث الصناعة الثقافية موردٌ مالي للدولة) وبين الـ”هنا” حيث لا تزال الثقافة ترفاً في بال المسؤولين عندنا، ولا يزال الفعل الثقافي ثانوياً في اهتماماتهم أمام أولوية السياسة والأمن والاقتصاد. وهذا منطقٌ طبيعيّ ومسؤول، لكنّ في جميع بلدان العالم هُموماً ومشاكلَ سياسيةً وأمنية واقتصادية، لا ينتظر المسؤولون هناك حتى تنقشع غماماتُها السود كي ينصرفوا الى الاهتمام بالشأن الثقافي، بل يولونَه الاهتمام المعادلَ سائرَ الشؤون توازياً مع جميع الاهتمامات الأخرى في قيادة الدولة.
إنّ الإبداع الثقافي في الوطن عنوانُ الوطن، والسياحةَ الثقافية في البلاد عنوانُ البلاد الحقيقي. فهؤلاء زوّار إسبانيا، مثلاً، يقصدون متحف دالي ومنْزل دالي ويعودون الى بلدانهم، وقليلون جداً (حتى يكادوا يبلغون الصفر في المئة) مَن بينهم يعرفون اسم وزير في حكومة أسپانيا، أو نائب في الپرلمان الأسپاني، لكنهم جميعَهم يعرفون دالي (الذي انْحسَرَ عنه الضوء منذ وفاته قبل عشرين عاماً، سنة 1989) ولا يزالون يقصدون متحفه ومنْزله بالآلاف كل أُسبوع.
أيها السياسيون… مـا أتعـــسَ مصيرَكم حين ينحسر عنكم الضوء، لأنكم تذهبون الى النسيان.
والمجد للإبداع والمبدعين… إنهم الخالدون الذين حين ينحسر عنهم الضوء يظلّون شعاعاً متوهّجاً في منارة الزمان.