هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

733: رأيتُ في ناغورني كاراباخ

الحلقة 733: رأيتُ في ناغورني كاراباخ
(الأربعاء 3 أيلول 2008)
سْتيپّاناغِيرت (عاصمة دولة ناغورني كاراباخ)

الطريقُ من يِرِڤان (عاصمة أرمينيا) الى ستيپَّاناغِيرْت (عاصمة ناغورني كاراباخ) استغرقَت سبعَ ساعاتٍ سُلحفاتيّة مَطّاطة قطعَها الباص كما على ظهر أفعى: عَلْواتٍ ووهْداتٍ والتفافاتٍ حِرباويةً ومنعطفاتٍ لولبيةً خطِرة حملَتْنا الى جبالٍ ملوّنةِ الحجارة بين أسودَ ورماديّ وأخضرَ وزهريّ وأونِكْس خام، ونحنُ: جبلٌ وراء جبل، تلةٌ بعد تلة، ريفٌ يليه ريف، نَعبُرُ من وادٍ الى سهلٍ ثم نُخاصِرُ القمَم أو نُكاتِفُها، لا يعلو فوقَنا إلاّ نسورٌ تُحوّم حولَنا وغيومٌ ترنو إلينا نَشُقُّ طريقَنا وسْط متحفٍ طبيعيٍّ رائعٍ من صخورٍ أَلْفيّةٍ دَهريةٍ تكدَّست طبقاتُها في أَشكالٍ بديعةٍ حَتَّتَتْ بعضَها الأيام وخَطَّطَتْ بعضَها الآخر منحوتاتٍ طبيعيةً مدهشةَ الجمال.
في ناغورني كاراباخ (البلاد التي استعادَت أراضيها من أذربيجان سنة 1988) استقبلني وزيرُ الثقافة المعيَّن حديثاً ليرنيك هاغوبيان بعبارة:”أهلاً بشاعرٍ من لبنان الذي قاوَمَ وتَحرَّر، الى وطننا الذي قاوَمَ وتَحرَّر”. وفي حديثي معه اعتبرَ الثقافةَ “علامةَ الوطن القويّ، وما عداها عابرٌ إلى زوال”. وتَمنّى “التبادل الثقافي مع لبنان” الذي قاله “واحةَ الثقافة في الشرق، ووطنَ جبران في العالم”.
والى موعدي في اتحاد الكُتَّاب الكاراباخيين، أبى الوزير الشابّ (وهو شاعرٌ ذو خَمس مَجموعات مطبوعة) إلاّ أن يرافقَني، هو العضوُ في الاتحاد ويعتزُّ بانتمائه إليه، لأنّ عملَه كوزيرٍ مؤقتٌ، بينما عُضويتُه في الاتحاد (كشاعرٍ) دائمةٌ ثابتة.
أوَّلُ ما استقبلني به رئيسُ اتحاد الكتّاب ڤارتان هاغوبيان (ذو الأربعين كتاباً مطبوعاً بين شعر ومسرح وقصة ودراسة أدبية، والصحافيُّ القديم ورئيسُ الاتحاد منذ خمس وعشرين سنة) قولُه لي: “أهلاً بإبنِ وطن جبران”. وقال لي إن “النبي” كتابُه المفضَّل من الأدب العالمي، وإنه يدرّس في الجامعة مُختاراتٍ بالأرمنية من كتابات جبران. وفهمتُ منه (وكان بيننا مترجم) أنّ في دولةِ ناغورني كاراباخ الصغيرةِ هذه، ذاتِ الثلاثمئة ألف نسمة فقط (أي أقل من سكان الأشرفية وحدها) وذاتِ المساحة التي تعادل مساحة لبنان، تَصدُرُ أربعَ عشْرة جريدةً يوميةً وأسبوعية، وأنّ للاتحاد وحده جريدتَين أُسبوعيَّتين للشِعر والقصة والمقالة، وأنّ ميزانية الاتحاد خمسةٌ وعشرون ألف دولار من الدولة لتشجيع النشر والقراءة، وهو يضم حتى اليوم ستين عضواً في مختلف حقول الإبداع ويُصدر كتابَين جديدَين في الشهر ويوزّع منشوراته مَجاناً لتعميم الثقافة، وأنَّ في ناغورني كاراباخ جريدةً يومية خاصة بالجيش، ومئتين وخمسين (250) مكتبةً خاصةً وعامة، وفي الخاصة منها غرفةٌ جانبيةٌ للمطالعة الْمَجّانية لِمن لا قدرة لَهم على شَراء الكتب.
وفي “قصر الثقافة والشباب” (الذي على مسرحه الفخم قدّمت “كورال الفيحاء” أمسيةً رائعة من التراث اللبناني والعربي والأرمني) سألتُ وزير الثقافة حَدّي عن عودة الفنون الى بلادهم بعد حربٍ شرسة، فقال لي إن الدولة (رُغم ميزانيّتها الضئيلة والفقيرة) أعادَت الكهرباء أربعاً وعشرين ساعة، ونشرَت رجال الشرطة لضبط الطرقات والأمن والنظام، وفي البلاد كورالات وصالاتُ كونشرتُوات وفرقٌ موسيقية، ودرسُ الموسيقى إلزامِيٌّ في المدارس، والمطالعةُ خبزُهم اليومي، والفنونُ غذاؤُهم المتواصِل، لأنَّ الشعبَ الذي يَنشأُ على الثقافة، يقاومُ أقوى، ويتمسَّك بوطنه وتراثه أكثَر، فيدافع عنه بإيمان أكبَر.
بلى: وحدَها الثقافةُ الإبداعيةُ درعُ المقاومة، لأنَّها تَجعل الشعبَ كلَّه ابنَ المقاومة، حتى يتحرَّر آخرُ شبرٍ من أرض الوطن، فينحُو الشعبُ بعدها الى بناء هذا الوطن على المستوى الأرقى العائد الى الثقافة الإبداعية والفنون الجميلة.
ومن له في لبنان أُذُنانِ بصيرتان، فلْيَتَّعِظْ.