هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

724: مع العرّاف الإغريقي منصور الرحباني

الحلقة 724: مع العرّاف الإغريقي منصور الرحباني
الأحد 3 آب 2008

بقامته الحاملة السنين والأحزان، دخل علينا في قاعة مار الياس- أنطلياس، مساء الخميس الماضي.
وبصوته المتهدّج الْمُطَمْئِن، قرأ علينا باقةً من قصائده الجديدة في كتابَيه الجديدَين “بَحّار الشّتي” و”القصور المائية”، ومن كتابَيه الماضيَين “أنا الغريبُ الآخر” و”أُسافرُ وحْدي مَلِكاً”، وقرأ من الكتاب الجديد “قصائد مُغنّاة” بتوقيع الأخوين رحباني صدَحَت بِها شاعرة الصوت فيروز.
منصور الرحباني، في تلك الأمسية الأنطلياسيّة، كان بيننا كاهناً من نوعٍ آخَر. كان عرّافاً إغريقياً في معبد قديم ينسُج النبوءات شعراً، ويعلن علينا من “دِلْفْ” وهْج النبوءة.
أعلن خوفه من الموت، كعادته في التشبُّث بالحياة: “رحْت وما ودّعتِك/زعلان من حالي/ومن قبلْها كنتي معي ومضيّعِكْ/ عشرين سنِه ومضيّعِكْ/فتّش عليكي بْهالدني، وإنتي بقلبي قاعدِه وما إقشَعِكْ/ولَمّا التقينا كان هالعمر الشَّقِي/صفّى على الْمِهوار/ويا آخر الْمشوار/عمنلتقِي وما منلتقِي/ويا مين يعرف شو بقِي وشو ما بقِي/وإنتي، يا أحلى من الحلا/لا تتركيهُن ياخدوني ويهرْبو/ سامع صواتُن بالفَلا/ بيبَعّدو وبيقَرّبو/قوليلْهُن بعدو صبي/ مبارح كِـبِـرْ عَ المصطبه/ معليش شي مره اكْذبي/ولو كرمالي اكذبي/هلّق أنا عرفْتْ الدني/ وإنتي الدني/يلعَن أبو هالعمْر/مستكتِر عليي بعينيكي الخضْر/إتشمَّس وْلَنّو سنه”.
وقرأ علينا من طيف ذكرياته: “ويا تلّة الخياط لي فيك نَجمةٌ/وفوق تلال الرملِ منكِ صليبُ/يسمّرني حبٌّ عليه الى المدى/ وبيتُ القساةِ الصّالِبِيَّ قريبُ/وإنتِ، على ما تعلمينَ، حبيبةٌ/وكلُّ مكانٍ أنتِ فيه حبيبُ/إذا كان ذنبي أنّ حبَّكِ سيّدي/فكُلُّ ليالي العاشقينَ ذنوبُ/أتوب الى ربي، وإني لِمَرةٍ/يسامِحُني ربي: إليكِ أتوبُ”.
وقرأ من بعض المعروف: “لَملمْتُ ذكرى لقاءِ الأمس بالْهُدُبِ/ورحْتُ أَحضُنها في الخافقِ التَّعِبِ/أهواه؟ من قال إني ما ابتسمْتُ له؟/ دنا، فعانقَني شوقٌ الى الهربِ/نسيتُ من يده أن أستردَّ يدي/طال السلامُ وطالَت رفةُ الْهُدُبِ”.
وقرأ بيتيه الى عاصي سنة 1998 على أدراج بعلبك بغصَّة التذكار للمرة الأُولى في بعلبك بدون عاصي: “طلّيت عَ بعلبك بعد عشرين سنِه/إسأل إذا شافَك حدا ت يدلّني/لا تقول مَنَّكْ هونْ بعدو ع الدّراج/صوتَك وبعدا طايره فيك الدني”.
هذا الوفاء العظيم لعاصي، ذكّرني بطُرفةٍ، صيفَ 1978، ذاتَ كنا شلّةَ أصدقاء لدى منصور يقرأ علينا النسخة الأُولى من مسرحية “بترا”، حتى إذا انتهت السهرة اصطحبتُ عاصي الى بيته. في الطريق أبديتُ إعجابي بأبياتٍ وردَت في المسرحية فبادرني عاصي: “هيدا مش أنا، هيدا شغل منصور”، وغير مرة، حتى اليوم، حين أُبدي دهشتي لِجمالِ بيتٍ أو صورةٍ في قصيدة، يبادرني منصور: “هيدا مش أنا، هيدا شغل عاصي المعلم”.
أعجوبة عاصي ومنصور الرحباني، هذين اللاَّتفْرقَةَ بين أَيٍّ منهُما كتبَ، أو أَيٍّ لَحّن، أنَّهما خلقَا لنا وطناً من جمال، جمهوريةً فاضلة، أفلاطونيةَ المبادئ، قائمةً على الحب الذي يبني أسُس الأوطان. وهو ليس وطناً “كرتونياً” انْهار عند أول صدمة، كما ورد في نقيقٍ لبعضِ الضفادع، بل هو وطنٌ لا يعرفُه إلاّ مَن يستاهلونَه، وهم قَلائل.
لأجل هذا الوطن، أحبَبْنا لبنان، ونتشبَّث به، وننغرز في جذوره، ونلتفتُ الى السياسيين وضعيفي الإيمان بلبنان اللبناني، فنقول لَهم: “لكم لبنانكم الْحِرباويُّ المتَلَوِّنُ الْمُتَأَفْعِنُ الْمُتَثَعْلِبُ، ولنا نَحن لبنانُ الحقيقيُّ، الطالعُ من صوت فيروز، وعبقرية الأخوين رحباني”.