هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

635: هوية موسيقى الكلمات إلى موسيقى الصورة

هوية المسرح بين القراءة والمشاهدة
الاثنين 15 شباط 2010
– 635 –

الحوار الساخن الذي واجه الجمهور وجلال خوري بعد انتهاء مسرحيته الجديدة “رحلة مُحتار الى شري نَغار”، بين أنّ ما شاهدوه كان “حواراً ثنائياً أكثر منه مسرحاً”، وبين دفاع جلال خوري عن أنه يطرح “جدلية تاريخية” حاول تبسيطها، لم يكن حواراً ابنَ ساعته بل مُحصّلةً بديهيةً لسؤال دائم: ما تقديمات المسرح لجمهوره؟ وما هي انتظارات الجمهور من المسرح؟
الفارق بين السينما والمسرح والتلڤزيون: السينما يقصدها جمهورها غالباً للتسلية وتمضية وقت ممتع (وأحياناً يأتي المشاهدون بالفيلم الى بيوتهم على أقراص يشاهدونها مسترخين)، والتلڤزيون حالة استرخائية أخرى يعيشها المشاهدون في بيوتهم من دون عناء. الفيلم السينمائي والتلڤزيون يأتيان الى الناس، بينما المسرح يذهب إليه الناس، ولذا هو يفترض تَهَيُّؤاً وقصداً وانتقالاً الى صالة المسرح لمتابعة عملٍ كلَّف جهداً لتقديمه، وكلّف جمهوراً يقصده لانتظاراتٍ بعضُها مسبَق وبعضُها الآخر ذو تَوَقُّع. وفي الحالتين يتطلّب الجمهور من العمل المسرحي أن يعادل انتظاراته، ويتطلب العمل من الجمهور أن يتابعه في دقة، حتى إذا لم تتعادل المتابعة مع الانتظار أو التوقُّع، كان خللٌ يخلق مسافة بين العمل وجمهوره. وهنا تختلف خصائص المسرح جذرياً عن خصائص السينما والتلڤزيون.
انطلاقاً من حجة المشاهدين في مسرحية جلال خوري أنهم تابعوا حواراً فكرياً فلسفياً أكثر منه تحرُّكاً مسرحياً، نبلغ جدلية أخرى في المسرح طالما أسالت حبراً وأفاضت تساؤلات: بين مسرحية مكتوبة للقراءة ومسرحية مكتوبة للمشاهدة. الأُولى لا تعدو كونها حوارية بين الشخصيات توسّعت الى مَشاهد، يتابع قارئها بعضاً من مسالكها في الرواية (تتضمن هي الأُخرى فصولاً ذات حواريات بين شخصياتها ومشاهد، فلا رواية بدون حوارات ومشاهد)، بينما الأخرى (المسرحية المكتوبة للمشاهدة) تفترض أصولاً وقواعدَ وأسساً ومعايير مختلفة تتمظهر في التمثيل المتحرك التشكيل، وفي الديكور الوظيفي، وفي المؤثرات المصاحبة، وفي أداء ممثلين أبسطُ أدوارهم أن يخلقوا تفاعلاً بينهم وبين الجمهور. هنا النص قاعدة تنطلق منها المسرحية الى جمهورها، بينما النص هناك (في المسرحية المكتوبة للقراءة) أساس كل المسرحية بين يدَي قارئها. هنا الفكرة مجسدة على المسرح وفق مقوّمات متحركة، وهناك الفكرة مطروحة على الورق وفق مقومات الحوار. قد تكون الهيكلية نفسها في الحالتين، لكن نقْلها الى المسرح ذو متطلبات رئيسة هي التي تجعل للجمهور انتظاراته من العمل، وللعمل دورَه في الإجابة عن انتظارات جمهوره ذي الخلفيات والثقافات المتعددة.
صحيح أن المسرح الكلاسيكي لم يَعُد اليوم رائجاً بوحداته الثلاث (المكان، الزمان، الحدث)، لكن المسرح المعاصر، ولو تخلّى عن كلاسيكية الوحدات الثلاث، لا يزال يراعي الحد الأدنى من قواعد المسرح التي تبقيه فناً مسرحياً ولا تنقلُه الى أن يكون فناً آخر، اسماً آخر، نوعاً آخر، بمعنى أنه لا يزال يحافظ على أسس الشخصيات والديكور والفكرة والهندسة المسرحية.
وما يلاحظه الجمهور أحياناً من إطالة في المشاهد أو مـدٍّ في هوية الشخصيات، يشبه تماماً ما يستخدمه الرسام من تعبئة للألوان على قماشته بدون دلالة، لتعبئة المساحة اللونية، ما يخلق لديه ثرثرة تشكيلية تؤذي اللوحة شكلاً ومضموناً.
من كل هذا الأعلاه، تنبثق الحصيلة في تساؤلات مثلّثة الأطراف: ماذا يريد المسرح من جمهوره؟ ماذا يريد الكاتب من مسرحيته؟ ماذا يريد الجمهور من المسرح والكاتب؟ الى هذه الأطراف الثلاثة ينضمُّ الممثل كشريك أساسي في خدمة الثلاثة معاً، وينضمُّ المخرج كي يعطي المسرحية والمسرح والنص بُعداً آخَر هو الذي يُعفي الجمهور من الإحساس بأنه أمام نص مسرحي للقراءة لا للمشاهدة، وهو الذي يضع على السينوغرافيا بصمة التشكيل المسرحي التي تُبعده عن نص القراءة وتقدّمه الى الجمهور وحدة متكاملة، قاعدتُها النص، تضمُّ الممثل والديكور والملابس والتحرُّك على الخشبة.
وإذا خرج المسرح عن هذه العناصر، خرج من نفسه وأضاع هويته.