هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

634: الانتشار وإلاّ… الانتثار؟

الانتـشار وإلا… الانتـثار؟
السبت 6 شباط 2010
– 634 –

هل وَفرة المؤلفات المطبوعة علامةُ جودة للكاتب؟ وهل قلّتها علامةُ شحّ في جودة نتاجه؟
غالباً ما تُثير هذه المعادلة جدلاً في أوساط الأدباء والأكاديميين، حول ضرورة النشر طريقاً الى الانتشار، وإلاّ فهو الانتثار هباءً منثوراً على جانب الطريق.
صاحب مقولة “الانتشار أو الانتثار” (Publish or Perish) هو الأكاديمي الأميركي كِمبال آتْوُود (من جامعة كولومبيا في نيويورك) أطلقها سنة 1950 مفترضاً أنّ مَن لا ينشُر كتاباته (طباعةً في كتب، والأقل: مقالات في مجلات متخصصة) مصيره الى النسيان والاندثار مع غيابه.
ومن هنا – أكاديمياً – شرطُ النشر (دراساتٍ وكُتُباً بحثية) في أوساط الأساتذة الجامعيين من أجل ترقيتهم الى الدرجات الجامعية الأرفع وصولاً الى الأُستاذ المتفرغ. وهذا يفترض في الأستاذ الجامعي مواصلة أبحاثه ودراساته المعمقة فإصدارها في كتب.
غير أن لهذا التهافت (أو الإصرار) على وفرة النشر وجهاً آخر ليس أقل معالمه الكثرة على حساب الجودة، واعتماد سطح المواضيع عوض الغوص في عمقها الجدّيّ. صحيح أن النص الأكاديمي ذو قواعد وأُسس لا يستقيم بدونها معيار النشر، لكن تتالي المنشورات للكاتب الواحد يطرح تساؤُلاً مباشراً حول الجودة والجدية في مضمون النص. وكما في الوسط الأكاديمي تذهب الجودة ضحية الكثرة، أو الأقل جودة في سبيل الأكثر نشراً، كذلك في الوسط الأدبي ينحو أدباء الى تتالي نشر مؤلفاتهم والإكثار من عناوين مؤلفاتهم في الصفحات الأولى (أو الأخيرة) من كُتُبهم، دلالةً على “غزارة” إنتاجهم الذي لا يعني ضرورةً أنه ذو جودة.
ثمة أدباء كثيرون غابوا تاركين مخطوطات لم تتسنَّ لهم طباعتها (ربما لقصور في الإمكانات) واتضح أنها ذات قيمة لم يكتسبها الكاتب على حياته فاكتسبها بعد غيابه. وكذا الأمر لدى أدباء اشتهروا بأعمال منشورة قليلة لأن جودتها فرضت حضورها على القراء والأوساط الأدبية. فهذا في فرنسا أرثور رمبو (1854-1891) مات في السابعة والثلاثين تاركاً مجموعة شعرية لافتة (“قصائد”-1874) وكان في العشرين، وقصيدة “المركب السكران” (1871) وكان في السابعة عشرة، وكسر قلمه في ما بعد وتحوّل الى الأسفار، وما زال حتى اليوم – رغم قلّة مؤلفاته المنشورة – أحد أبرز شعراء فرنسا لكل العصور.
وهذا أبو القاسم الشابي في تونس (1909-1934) غاب في الخامسة والعشرين تاركاً باقة قصائد ضئيلة جمعها ديوانٌ بعد غيابه، ولا يزال حتى اليوم محور دراسات وأبحاث ومكانة في الشعر العربي لافتة وخاصة.
وهذا الأخطل الصغير في لبنان، غاب بعد شيخوخة هانئة (1890-1968) ولم يترك سوى ديوان واحد (“شعر الأخطل الصغير”)، ومع ذلك بايعه الشعراء بأمارة الشعر (1962) لكون قصائده طارت شهرةً في ذاكرة الناس قبل أن تضمّها دفّتا كتاب.
صحيح أن النشر ضروري للكاتب، وقد تكون مؤلفاته المتزايدة ثمار فكره العميق وبحثه الجَلود وغزارة نتاج جيّد، غير أن هذه ليست معياراً دائماً لجعل الكاتب “مكثار النشر” ما سوى لزيادة التعداد. من هنا: على كلّ كاتب أن يتنخّل نصوصه قبل نشرها، كي لا يكون النشر لمجرد النشر مقياساً له، وإلاّ فهو يسقط في فخ الكثرة على حساب الجودة ولن يعود ينفعه غربال النقد بل ربما قد يسيء إليه.
“الانتشار أو الانتثار” معادلة جيّدة حين الكاتب حريصٌ على النوعية لا الكمية، قاسٍ في الحكْم على نصوصه قبل نشرها. لكن هذا لا يُعفي من ضرورة النشر لأن الانتشار لن يحدث إن بقيَت المخطوطات في دُرْج صاحبها كي تصدر (ربما) بعد غيابه.
النشرُ ضروريّ للانتشار وإلاّ الاندثار؟
بلى. إنما المعيار واحد: قيمةُ النص.