هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

599: كي لا نصبح وطن الشيوخ والعجائز

الحلقة 599: كي لا نصبح وطن الشيوخ والعجائز
(الأربعاء 16 أيار 2007)

لا تزال تتوارد دوريّاً إحصاءاتُ المؤسسات المعنيّة، رسميِّها والخاص، عن نهر الهجرة من لبنان إلى الخارج، جارفاً موجات شبابنا وصبايانا إلى هناك، كل هناك يسهِّل لهم استقبالاً وترحاباً.
آخر إحصاءٍ بلغنا: رحيلُ مئة وعشرين ألف لبناني من الشباب والصبايا في فترة عشرة أشهر. وإزاء هذا الرحيل الجماعي الرهيب الذي يُفرغُ الوطن من شرايينه الفتية، لا يزال شبابنا وصبايانا، الـ ما زالوا بيننا، يسمعون كل يوم تصاريح السياسيين، ويشاهدون وجوههم الغاضبة الحاقدة المقفلة المتوترة العصبية، ولهجاتهم الشتّامة التهديدية التهجُّمية الوعيدية، فيحمل شبابنا حقائب السفر ويرحلون متوارين لا يلوون على حنان أُمٍّ ولا على حنين ذكريات. كأنّ هذا الوطن لم يعُد يعنيهم. كأنهم لم يعودوا يعنون له إذ صاروا فيه بلا دور ولا صوت ولا مستقبل، بعدما صار وطن السياسيين وحدهم، يسرحون فيه ويتنازعون ويتهاجمون ومصيرَه يتناهشون، وشبابُنا يهاجرون.
جميع الحسابات الشخصية الأنانية الفردية يحسبها السياسيون، ولا يحسبون حساباً غيرياً جماعياً ديموغرافياً، هو أن سيجيءُ يومٌ لن يعود في ديموغرافيا لبنان سوى الكهول والشيوخ، والعجائزِ والعاجزين عن السفر والهجرة والرحيل.
كأنما سياسيونا لا يدركون أنهم حين يُفرغون تصاريحهم ومواقفهم وأحقادهم أمام الناس، إنما يُفرغون لبنان من شبابه ودمه الفتيّ وأدمغته ومواهبه وطاقاته الفاعلة المنتجة.
ومن يبقى؟ والدان ينتظران خبراً أو اتصالاً من ولدهم في المهجر، أمٌ ثكلى فرغ بيتها من أولادها الذين سافروا بعيداً لتأمين رزقهم ورزقها، والدٌ سافر أولاده ويكبر أحفادُهُ بعيداً عنه في المهجر.
وما يبقى؟ تبقى بيوتٌ فرغت من عصبها، وقرى وبلدات ومدن فرغت من شرايينها النابضة، وتبقى أوراق نعيٍ في كل مأتمٍ لا تَخلو واحدة بينها من عبارة “فلان وعائلته في المهجر”.
هذا هو الوطن الذي سيبقى للسياسيين حين سيستفيقون على ما اقترفَت أيديهم وما سبّبته مشاحناتهم وكيدياتهم وعناداتهم وأحقادهم المتبادَلة ونزاعاتُهم على الحكم والزعامات.
هذا ما سيبقى لجميع القايينيين الذين اقتتلوا في ما بينهم ووجّهوا أصابع الاتهام إلى شعب لبنان.
لا. أبداً. مش صحيح. اللبنانيون كشعبٍ ليسوا متخاصمين ولا متقاتلين. ومش صحيح أن في لبنان خطر حرب أهلية، بل حرب أزلام ضد أزلام ومَحاسيب ضد مَحاسيب وأغنام لأصنام ضد أغنام آخرين لأصنام آخرين.
المتقاتلون ليسوا أبناء لبنان بل سياسيو لبنان الذين يستعملون شعبنا مطايا لأطماعهم ومآربهم وبلوغِ الحكم أو البقاء فيه.
ولكنّ الباقين في الحكم، أو الطامعين به، أو الطامحين إليه، سوف يجيء يومٌ لا يعودون يحكمون فيه إلاّ على الكهول والشيوخ، والعجّز والعاجزين عن الرحيل، يعني بقايا وطنٍ نشفت في عروقه دماء الحيوية.
ويا بئس وطنٍ عندها يَحكمه من لا يَجدون في شعبهم إلاّ… بقايا العاجزين!