هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

570: قيمة الدقيقة بين لبنان واليابان

الحلقة 570: قيمةُ الدقيقة بين لبنان واليابان
(الأربعاء 31 كانون الثاني 2007)

عند وفاة الإمبراطور الياباني الأخير، دعا رئيس الحكومة إلى اجتماع لدرس إجراءات مراسم التشييع، ومنها التوقف عن العمل في كل البلاد حداداً على الإمبراطور، كلٌّ في مكان عمله، وهل يكون هذا التوقُّف دقيقةً واحدة أم ثلاث دقائق.
وفي الجلسة الحكومية، جاء وزير الاقتصاد بدراسة مفصلة كلّف بها خبراء، دلّت على ما يلحق بالاقتصاد الياباني إذا توقف العمل في البلاد دقيقة واحدة، وما يلحق به إذا كان التوقُّف ثلاث دقائق. وبعد التداول بين الوزراء، أجمعوا على أن يتوقّف العمل في البلاد دقيقةً واحدةً احتراماً لوداع الإمبراطور ثم يكمل كلٌّ عملَه في مكان عملِه.
من ناحية أخرى، روى لي صديق زار اليابان سياحةً قبل سنوات، وكان في القطار المتجه من الضواحي إلى طوكيو في رحلة تستغرق ساعتين وسبعاً وخمسين دقيقة. وبعد نحو ساعتين على انطلاق القطار فوجئ الركاب بالمذيع من مقصورة القيادة يعلن أسف القائد أن عطلاً فنياً طرأ على القطار سيستوجب تأَخُّر الوصول ثلاث دقائق، فتستغرق الرحلة ثلاث ساعات بدل ساعتين وسبعٍ وخمسين دقيقة. وكرر المذيع هذا الإعلان مراراً معتذراً للركاب عما قد يسبب لهم هذا التأخير من ضرر.
الشاهد من هاتين الروايتين تبيانُ كيف يقيس العالم المتحضِّر استعمال الوقت بين دقيقة حداد عوض ثلاث، ولَحْظِ ثلاث دقائق لرحلة قطار من ثلاث ساعات، وبين ما يجري عندنا من هدر الوقت وهدر العمر وتعطيل الدروس وتعطيل المطار وتعطيل الحركة السياحية وتعطيل الحركة الاقتصادية وتعطيل الحياة السياسية والاقتصادية والمالية والسياحية والثقافية، بسبب عناد سياسي من هنا، وعنادٍ سياسي من هناك، والبلاد كلها متوقفة عن الحياة والحركة والعلم والتعلم والمدارس والجامعات والدوائر والمؤسسات والوزارات ومجلس النواب، وكل ذلك يغمر البلاد بدخانٍ أسودَ من اليأس والموات يحمل البقية الباقية من شبابنا على الهجرة إلى أي مكان في العالم يقيس وقته بالدقائق لا بالساعات ولا بالشهر ولا بالموت اللاحق بمفاصل لبنان.
إن وطناً يهدر وقته بالاعتصامات والمظاهرات والإضرابات في وقت الأزمات، وبجلسات المقاهي وطقطقة السبحات ولعب الورق والحكي في السياسة ومشاهدة برامج الـ”توك شو” في وقت الهدوء والسلم، هو وطن لا يهيّئُ لمستقبل أبنائه، بل يجمّع لهم مستقبلاً خطراً على فوهة بركان لا يعرف أحد متى ينفجر عند تصريح من هنا أو خطاب موتور من هناك، وتعود البلاد إلى الوقت الموقوف المهدور، فيما العالم يتقدم دقيقة دقيقة، بما في ذلك اقتصار المشاركة في تشييع أمبراطور عظيم على التوقف عن العمل لدقيقة واحدة فقط، رحمة باقتصاد البلاد.