هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

622: المحبة أراد جبران؟ أم الحب؟ (2)

المحبة أراد جبران؟ أم الحب؟ (2)
السبت 7 تشرين الثاني 2009
– 622 –
بعيداً عن البحث إن كان جبران عرف “الحبّ الحقيقيّ” في حياته، أم لم يعرف سوى مغامرات وصداقات، يهمّنا منه النص الذي أطلقه في “النبي” عن الحب، وهو ليس بعيداً عن النفَس الذي يتجلّى في كتاباتٍ له أدبية أُخرى عن الحبّ، وفي رسائله أو في أجوبته عن الرسائل المكتوبة إليه.
وإذا كان صحيحاً أن جبران بطبيعته “مسالِم ومُحِبٌّ وغفور وغير عدوانيّ” (كما حدّده نسيبُه النحّات خليل جبران في بيوغرافياه الدقيقة جداً)، فالصحيح أيضاً أنّ ما يظهر في نصه على لسان المصطفى، هو أقرب الى الحب منه الى المحبة الطوباوية الرهبانية الإنسانية الشاملة التي تقال لأيّ إنسانٍ عن أيّ إنسانٍ في أيّ إنسان.
فـ”الدروب الصعبة الشائكة” ليست دروب المحبة السلسة بل دروب الحب الذي لا يرضى على مسلكه إلاّ المستحقّين.
و”السيف الذي بين الجناحين” و”قد يجرح” ليس سيف المحبة بل هو سيف الحب المصلت على العاشقين كي لا يخطئوا.
والصوت الذي “يحطم الأحلام كما ريح الشمال تهشّم الحديقة” ليس صوت المحبة اليوتوپية بل هو صوت الحب الذي يفيض بالسعادة في حالات الرضا، وينهال بالتعاسة في حالات الغضب.
والذي “يَصلُب بعدما يتوِّج” ليس عمل المحبة بل فعل الحبّ الذي يعذّب من لا يكون بريئاً نقياً مستحقاً ومستاهلاً أن يحمل من الحب تاجاً ليس يعطى إلاّ لِمن ينذرون الإخلاص والوفاء والالتزام بالقلب الآخر الواحد الوحيد الأحد.
والذي “يهزُّ الجذور في قلب التراب” ليس فعل المحبة بل الحبّ الذي لا يرحم زلاّت العشاق، ولا يغفر أخطاءهم، ولا يسامح خطاياهم، لذا يظلّ العشاق متأهبين للبقاء على نذرهم الأوحد: حب واحد لقلب واحد لا إشراك به ولا معه ولا فيه.
والذي “يعجن حتى أنقى البياض” ليس قدَر المحبة بل قدَر الحب الذي يريد العشاق طيّعين بين يديه ينصاعون برضى كي يستاهلوا دخول جنة الحب أنقياء بلا غبار الأمس ولا أطياف الماضي ولا ذئاب النوايا السوداء السابقة.
والذي يستحقّ أن يكون “خبزاً نقياً على مائدة الإله المقدسة” ليس حامل المحبة بل ابن الحب الذي لا يرضى الى مائدته إلاّ المؤهلين أن يقتبلوا نار الحب وعذاب الحب وشقاء الحب وقلق الحب وأَرَق الحب وحرقة الحب فيكتوون ويبلغون نيرڤانا العشق الكبير، وهذه جميعها لا تتطلّبها المحبة الغيرية المجانية التي يوزّعها الناس على جميع الناس بدون موائد ولا نار ولا عذاب.
والذي “خشية كل ذلك لا يبغي من الحب إلاّ الهدوء والمتعة” ليس مَن يبشّر بالمحبة بل من لا يستحق الحب الكبير الذي يَخُضّ العاشق ويَهُزُّهُ ويَجلدُهُ ويُقلقه ويُؤرّقه ويُخيفه – نعم يُخيفه – فليس أشدَّ هولاً وأثقلَ رعباً وأكثرَ هلعاً على العاشق من فقدانه رضى حبيبته حوله، أو حضورَها فيه، أو حنانَها عليه.
والذي “لا يعطي إلا ذاتَه ولا يأخذ إلاّ من ذاتِه ولا يكتفي إلاّ بذاتِه” ليس حتماً “المحبة” بل الحب العظيم الذي لا يمكن أن يكون إلاّ أنانياً وبكل قسوة، وشخصياً وبكل حدّة، ونرسيسياً وبكل اعتزاز، وقاسياً وبكل حنان.
هذا هو الحبّ الذي تَحدَّث عنه المصطفى أمام جُموع أورفليس بصوته القويّ ورأسه المرفوع، الحب الذي هو حنون ومع ذلك لا يرحم، ونبيل ومع ذلك ليس يغفر ولا يُسامح لأن القلب الواحد لا يرضى إلاّ بالقلب الواحد الوحيد، بينما المحبة علامتُها أن صاحبها يشارك الجميع بالمحبة ويتشارك بها مع الجميع.
إن الذي قال “حين تحبون لا تقولوا إن الإله في قلبكم بل قولوا إنكم أنتم في قلب الإله” كان يدرك أن الإله الذي كلّه محبة، هو أيضاً كلُّه غضب، والغضب المُحِقُّ نارٌ تصهر من يقع فيها وتحذِّر من الخطيئة، لأن الخطأ الى سماح بينما الخطيئة في الحب لا الى غفران. وهنا عظمة الحبّ الذي يأتي مرةً في العمر إحدى ولا يتكرّر.