هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

615: خيمياء الحلم… وسارق النار (2)

خيمياء الحلم… وسارق النار (2)
السبت 19 أيلول 2009
– 615 –
إذا كانت “خيمياء الحلم” (“أزرار” 614) تؤدّي، في وجهٍ بارزٍ من وُجوهها، الى “نعمة الحب” (الحب بمعناه الإنساني الواسع) فليس كـ”سارق النار” أبلغ تجسيد لتلك “الخيمياء” وهذه “النعمة”.
وإذا “سارق النار” هو الشاعر (كما سمّاه أرثور رمبو في رسالته الى بول ديْمُني في 15/5/1871 موضحاً أنّ الشاعر “يبحث عن روحه، حتى إذا وجدها عَمِلَ على صقلها… وأصبح صوتَ الإنسانية يعكس شؤونها وشجونها فيعطي شكلاً للاَّشكل… ويوقظ في ناس زمانه الروحَ الكونية، فيصبح رؤيويَّ زمانه”) وإذا كان هو “رسولَ شعبه” (كما سمّاه ڤيكتور هوغو في قصيدته “رسالة الشاعر” سنة 1848 وَوَسَمَه “حامل الشعلة في ليل الزمن”)، فالشاعر إذاً تجسيد وتأكيد لـ”نعمة الحب”. إنه “پروميثيوس” الذي امتطى عربة الشمس فسرَق النار من أولمپ الآلهة وأهداها البشرَ ليضيء بها ظلماتهم محتمِلاً عقوبة الصلب على صخرة الزمان ونَهْشَ الطيور الكاسرة قلبَه الكبير الحنون، وإرثَ قصائده مَحرقةً يصطلي بها الجائعون الى الدفء الحقيقي.
من هنا أن الشاعر “سيد الإشارات” في التقاطه لغةَ الكون التي تتمظهر بالإشارات (“پاولو كويلو” في “الخيميائي”: سعياً الى “تحقيق الذات الفردية بلوغاً الى معانقة الذات الجماعية، في رحلة حياتية الى آخر حدود القدَر مهما كانت الحوائل دون بلوغ هذا القدَر”). ومن هنا رؤيا جبران في “الحب” بأنه “يتوِّجكم ولو صَلَبَكُم، ينمّيكم ولو أوجعكم باستئصال الفاسد منكم، ويطال أَعلاكم ولو غاص على جذوركم يهزُّها كي ينقّيها ويغربلَكم من القشور فيكم فيطحنكم ليُطهِّركم الى أقصى النقاء فتستاهلوا أن تكونوا في قلب الحياة”.
هذا هو الحب الذي يواجهه الشاعر بشجاعةٍ تجعله يستحقّ (أو لا يستحقّ) نعمة الحياة. فالشاعر في مساره الحياتي هو سيّد “الفعل” بين مفترقَين: “الافتعال” أو “الانفعال”. قبل الحب “يفتعل” الشعر، “يصطنع” الحالة ليكتُبَها. في الحب “ينفعل” بالحالة لينكتب بِها. وبين “يفتعل”(يصطنع) و”ينفعل”(يعيش) تتحدّد شاعريّته بين شعر الغزل (قبل الحب) وشعر الحب الحقيقي.
بهذه الحالة الحقيقية يعيش الشاعر حبَّه الحقيقي مع المرأة الحقيقية التي قد يُمضي طوال حياته ينتظرها حتى تجيء (إذا جاءت) ولو في خريف العمر، كي تُحيل خريفَه ربيعاً مستداماً، فينتقل من شعر الغزل الى شعر الحب: من “الافتعال المصطنَع” الى “الانفعال المعيوش” فيبني معها (لأنها تكون وصلَت بكامل نُضجها) سيرةً جديدةً تطوي جميع الصفحات التمهيديات. كأنّ كلّ الذي بناه قبلها كان تَحضيراً لِمجيئها، كأنه كتبَها قبل أن تأتي فناداها شعرُه طويلاً حتى استجابت.
هذا هو الحبّ الحقيقي الذي بين هذين الكائنَين (الشاعر وحبيبته): يبني، يَصقل، يُحقّق الذات، يخلُق التراشُح بين الاثنين فيُكمل واحدُهما الآخَر. يضيءُ واحدُهما الآخَر. يغذّي واحدُهما الآخَر. يُعيدُ واحدُهما صياغةَ الآخَر كأنه، قبل، لم يكن. كأنه كان كي ينتظر أن “يكون”. الحب الحقيقي “تَراشُفٌ” متواصل، “تَراشُحٌ” حقيقيّ، لا يكون من جهة واحدة. من هنا أنّه بَنَّاء، صالح ومفيد. الحبّ الذي يبقى “حالة” فقط، يظلّ هشاً. الذي يصنع “الحدث” هو الأبقى. الحبّ الحقيقي يُخصب الوقت بالإنتاج الصالح. هو بُعدٌ يتوالد الى أبعاد. لا يتوقّف عن عطاء متواصل. هو دائم الحضور وليس وقتاً حَدَّ الوقت، أو خارج الوقت، أو في فراغ الوقت. هو كلُّ الوقت. من هنا أن الشاعر يُخصب بِحبيبته لَحظة الحب فتَمنحُه الحياة الحقيقية، ولو كان له أن يواجه تلك “اللحظة” بشجاعة الرومنسيات “الممنوعة” أو “المحرَّمة” أو “السِّرِّيَّة”.
هذا هو الحبُّ الحقيقيُّ الذي يُشعله في زمانه “سارقُ النار”، صارخاً في ليل الزمان، موقظاً نيام القدَر أن ينهضوا الى قدَرهم، رؤياهُ فيهم الطريق، صوتُه فيهم الإشارة الى القمة، وقصائدُه فيهم دليلُهم الى جَبين الشمس.
وهذه هي خيمياؤه الرائعة التي تُحوِّل من حال الى حال.