هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

607: ذاك النهار في مشمش

ذاك النهار في مشمش
السبت 25 تموز 2009
– 607 –
“هنا تحت كل تُرابَة… حكايةُ مَجد” بِها افتتح سعيد عقل كتابه “لبنان إن حكى”. تُراه يُبالغ؟ ليُمكنُ الظنّ،إن لم نكن نعرف فعلاً كنوز لبنان. سوى أننا حين نعرف، نبوس كلّ ترابة من أرضنا الطيّبة التي تكتنز أصداء من التاريخ قِيَماً ومعالِم.
لم أكن أعرف مشمش. قد أكون مررتُ بِها في طريقي إلى الجرد الأعلى. غير أنّ نهاراً كاملاً فيها الأسبوع الماضي فتح لي مغالقَ صامتةً من “مغاور الزمرّد والياقوت” النائمة في أرضنا التاريخية. ومن تلّة فيها إلى تلّة، تومئ لنا من بعيد تلّة عنايا وضريح القديس شربل والمحبسة تعلوها بِهيبةٍ ووقار، قرأتُ كنوز مشمش التي، وهي ليست إحدى، تجعل من لبنان أرض القداسة وشرياناً حيوياً من دروب الإيمان.
مشمش (واسمها الأصلي “مشمس” نسبة إلى اغتسالها بالشمس، وهي في السريانية “مشيمشو” أي: “أرض الشمامسة”) هضباتٌ تبدأ من 850 متراً وتتعالى حتى 1700. رحنا نتنقل فيها من “دبشة النواويس” (خبير معنا رجّح أنها فينيقية) إلى سندياناتها المباركة بالدهر العتيق، واحدتُها (سنديانة مار جرجس) استلزمت ضمة خمسة رجال أحاطوها بأذرعهم كي يحيطوا بجذعها. وفي منطقة “كفرشع” (“كفر”=دارة أو بيت، و”شع” قد يكون من تلك الآلهة السحيقة) رحنا نتنقل بين كنيسة وأخرى، كأننا في فاتيكان مصغَّر من القداسة المحلية. غريبٌ كيف أرض القداسة هي أرضنا، من أول الزمان حتى قبل الإله الموحّد. فبعض كنائس مشمش لا تزال مبنية بحجارة من الزمن الفينيقي (كنيسة مار يوحنا) أو الزمن الروماني (كنيسة مار ضومط الرعائية)، ومنها المبنيّة على أنقاض كنائس أقدم (مار يوسف) أو هياكل أو معابد أثرية، ومنها كاپيلات وسيطة تغلب على اتضاعها هيبةُ التقوى (كنائس القديس صوفيا ذات العقد القديم، والقديسة بربارة وسيّدة أرميش)، ومن المعالم مغارة القديسة تقلا، وهي مغارة سحيقة القدم، ميني – جعيتاوية بصواعدها وهوابطها، يروي الأهالي عن أسلافهم أنّ يوسف بك كرم احتمى فيها أياماً خلال هربه من العثمانيين.
خلال جولات أمين الريحاني إلى قلب لبنان، يذكر عن بلاد جبيل أن “الطريق فيها لا تعني مديرية الأشغال”. ولا يزال الوضع اليوم كما قاله الريحاني قبل 75 سنة. فالطريق تَتَأَفْعَنُ في خُطورة “الدهاليز” فيها لا في تعاريجها بين الأشجار والوديان، مع أن أحد مرافقينا أكّد لي أن المرشحين على انتخابات حزيران الماضي، خلال وعودهم الخطابية المهرجانية، جميعهم مروا في مشمش ومُحيطها على تلك الطريق الصالحة لزراعة البطاطا أكثر من أهليتها لتكون طريق سيارات.
وخلال تصعيدنا بين الأشجار الدهرية والأعشاب البرية، في مساحات ممتازة عند استصلاحها لتكون متنزّهات عامة، كنا نمر بنباتات نادرة وأزهار فريدة وأغصان متشابكة في انعقاد حنون، كأننا في حيِّز من خارج هذا العالم.
وفي مناخ صخري صحي عذب، انتهت جولتنا بغداء قرويّ عند ساحة دير مار تادرس (تلاصقه كنيسة السيدة) عند جبين هضبة خيالية تشرف على مُحيط مشمش (حجولا، عنايا، إهمج، اللقلوق، تنورين، جاج، سقي رشميا، لِحفد، حاقل، هابيل). وتحت سنديانة الدير (هذا الجو الحبيب إلى مارون عبود) ترامت أمامنا وهاد ووديان وتلال وجبال، وراح ينسم علينا ابترادٌ لذيذٌ جعل جلستنا من تلك التي تمر في العمر مرةً ولا تتكرَّر، كالحبيبة الحقيقية التي تَمُرّ في العمر مرةً إحدى لا تتكرر.
في مشمش سياحة بيئية وسياحة أثرية وسياحة طبيعية وسياحة دينية. وهي واحدة من حبات هذا العقد الرائع من اللؤلؤ العجيب الذي اسمه لبنان. ففي كل ضيعة من لبنان حكايات متروكة على الصخور وعلى جذوع السنديان والزيتون، ولا يكون عَرَفَ لبنان من لَم يعاينْ هذه المعالم التي اختصرها سعيد عقل في عبارته: “هنا تحت كل ترابة… حكايةُ مَجد”، لأن مَجد لبنان الحقيقيّ لا يُعطى إلاّ لِمن يعرف، على حقيقته الكاملة، لبنان.