هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

600: علامة لبنان؟ مقاومته الثقافية

علامة لبنان؟ مقاومته الثقافية
السبت 6 حزيران 2009
– 600 –
الملحقُ/الكتاب الصادر عن “لوريان لوجور” (مع عدد 29 أيار الماضي) وثيقةٌ ثقافية للحفظ، سيُعاد إليها طويلاً بعد.
نُخبةُ النخبة من أقلامنا، في نصوصٍ معمَّقة موثَّقة طالعة من خبرة أَصحابها واحترافيّتهم العالية، عالجت مواضيع راهنة في فصلين كبيرين (“الجمهورية في خطر: الفكرةُ اللبنانية على المحكّ، السلاح يتحدّى السلام، ملفّات تشريعية”، و”الفرد اللبناني في خطر: المواطنية المقاوِمة، مَهامُّنا الثقافية”). نصوصٌ رائعة بليغة أعطت المقاومة الثقافية اللبنانية هويةً يندر أن تُعطى لوطنٍ سِمَتُهُ التنوُّع، كما لبنان، مفكِّرَتُهُ خضّاتٌ سياسية وأمنية لو أحاقت بأيّ وطن آخر لانهار سقفه على سكانه وسقط مواطنوه في مثلث الإحباط أو الصمت أو الرحيل.
هذا المثلّث لَم يعرفه لبنان، حتى في أصعب أيامه التي لم تنتهِ صعوباتُها بعد. وما زال يقاوم. قدَرُهُ أن يظلّ يقاوم. ومقاومتُه الثقافية علامتُهُ التي تُبقيه نابضاً مُضيئاً حاضراً على الخارطة العالمية. قَدَرُهُ أن يقاوِم. بالفن يقاوم. بالكتاب. بالمعرفة. بالبادرة الفردية. بالسياحة. بالصحافة. بالجوائز الدولية ينالُها أبناؤه كل فترة. بالمهرجانات الدولية. ببيروتِهِ عاصمةً عالمية للكتاب. بإبداع أبنائه في كل حقل علمي وفني وثقافي من كل نوع. بامتداده العالمي في دول العالم وفي لغات العالم وفي جامعات العالم. كأنما له في كلّ دولة رسُلٌ وسفراءُ فوق العادة.
وهو هذا فعل إيمانه: المجابَهة، المواجهة، المقاومة بالثقافة عبر جميع أشكالها ووسائط تعبيرها. ودور الذكاء الاجتماعي الجَماعي يتجلّى في إعادتنا الى هويتنا الثقافية حين تُبعدنا عنها أمورٌ يومية واجتماعية وسياسية واقتصادية. من هنا أن دور الثقافة الأول هو التطوُّر والتطوير معاً، وتالياً: على كل نشاط اجتماعي واقتصادي وسياسي أن يَحمل في بذوره تجديداً ثقافياً.
لذا علينا أن نُفيد من التعدُّدية الثقافية التي يتميَّز بها لبنانُ وطناً تعاقبت عليه الحضارات عبر التاريخ، حتى بات مصهَرَها وملتقاها ويكاد يكون حصيلتَها جميعاً، يرفدها توق اللبنانيين الى الإبداع عبر الحرية: لا يحتملون ضغطاً ولا توتاليتاريةً ولا أوتوقراطية من أيّ نوع، وحين اشتدّت عليهم وطأةُ هذه، هاجروا الى مصر والأميركتين فشعّوا فيها علامات لا تزال أنوارها تتردّد حتى اليوم في ذاكرة التاريخ الأدبي والفكري. وما ورد في وثيقة الأونسكو “التعددية الثقافية” لا ينطبق على بلدٍ كما على لبنان الذي يهبّ الأفراد فيه، لا الدولة، الى حفظ تراثه الثقافي وهويّته الثقافية واعتماد جميع الوسائل للحفاظ عليها. ولذلك لا يمكن في لبنان تطبيق أية صورة نمطية، يرفضُها سلفاً وعيُ مبدعيه في كل حقل، لإدراكهم أن التعدّدية الثقافية، في مناخ الحرية، هي ينبوع دفّاق لغنى تواصلي يولّد الإبداع الثقافي الحقيقي. وهو هذا ما يفسر ظاهرة تتكرر دوماً: في مواجهة كلّ ظلامية تُحيق بلبنان من داخل ومن خارج، تنشب مقاومة عنيدة لتثبيت الهوية الثقافية اللبنانية عبر أعلامها ونتاجهم في لبنان والعالم.
الثقافة اللبنانية ليست مَحصورة في فئة، ولا مصبوغة بتيار، بل هي أغصان خيّرة تفرَّعت من جذع لبنانيٍّ متين، وراحت تتلاقى وتتفاهم وتتفاعل وتتخاطب وتتلاقح حتى أنتجت هوية لبنانية ذات خصوصية مُميَّزة لثقافة إبداعية لبنانية غير متزمِّتة ولا “شوڤينية”، بل منفتحة ومشعّة حتى باتت مثلاً يُحتذى، ومنارةً ترنو إليها دولُ الجوار والمحيط.
وكلّ هذا أعلاه يفترض “التسامح الثقافي” في مُمارساتنا اليومية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وما دامت الثقافة في لبنان علامةَ لبنان، فلنسعَ الى ترسيخ بنياننا الاجتماعي على قاعدةٍ ثابتة لتراثٍ لبناني جَماعي يتشكّل منه “الفعل الثقافي”.
والمقاومة الثقافية في لبنان لها عنوان آخر: الحرية. فالمقاومة الثقافية خلاص الشعوب الحرة، وجميع الشعوب التي انتصرت في بلدانها على الحروب والنِّزاعات المسلحة، دانت بانتصارها وخلاصها الى “فعل” واحد وحيد: تثبيت هويَّتها الثقافية.